ترامب والحوثيين وايران تناقضات تفضحها استهداف البنية التحتيه
الأحد - 20 أبريل 2025 - 12:06 ص
يتسم خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه الحوثيين وإيران بالتناقض والاندفاع، مما جعل كثيرين يشككون في اتزانه السياسي، فخطابه يربك أعداءه وحلفاءه على حد سواء، لدرجة عدم اليقين بما يمكن أن يقدم عليه من أفعال كترجمة لخطابه المتناقض.
فمن جهة، يرفع سقف التهديد إلى مستويات غير مسبوقة، ويتوعد الحوثيين بالإبادة والجحيم، ويشن هجمات نوعية ضدهم، ثم يلمح بأن هجماته ستتوقف في حال توقفهم عن تهديد الملاحة في البحر الأحمر، كما يتوعد بشن هجوم عسكري على إيران. ومن جهة أخرى، يلوح بإمكانية التفاوض مع القيادة الإيرانية، ويدعو إلى تسوية سياسية كبرى تعيد تشكيل أمن الخليج.
تناقضات ترامب لا تقتصر على الحوثيين وإيران، بل تشمل أبرز الملفات الساخنة في العالم، مثل حرب روسيا على أوكرانيا، وعلاقات بلاده مع أوروبا، وتصريحات حادة ضد حلف الناتو، وأخرى تصالحية مع روسيا، وسياساته الجمركية المتقلبة، فضلا عن مواقف متضادة من قضايا الهجرة والطاقة والتغير المناخي، وهذا التناقض كان أيضا سمة بارزة خلال ولايته الرئاسية الأولى.
هذه التقلبات، التي تربك الخصوم والحلفاء، تُضعف القدرة على التنبؤ بالتوجهات الأمريكية في ولاية ترامب الثانية، مما يدفع دولا عديدة إلى إعادة حساباتها الإستراتيجية، كما أنها أثارت جدلا في الداخل الأمريكي بين من يرون فيها عبقرية تفاوضية، وبين من يخشون من أن تفضي إلى عزلة دولية أو أزمات مفاجئة.
- سياسة مدروسة أم فوضوية؟
قد يظن البعض أن دونالد ترامب رئيس فوضوي ومتناقض بسبب تصريحاته المتقلبة أو غير المتسقة ظاهريا، خصوصا تجاه إيران والحوثيين، لكن ليس مستبعدا أن ذلك التناقض يعكس سياسة مدروسة قائمة على الإرباك والتصعيد ثم التراجع، فمثل هذه التناقضات ليست ارتجالية، والهدف منها إرباك الخصوم، وخلق حالة من عدم القدرة على التنبؤ بسلوك الرئيس العائد إلى البيت الأبيض، الذي يجمع بين التهديد المباشر وعرض التفاوض، ويدعم الحلفاء ثم يضغط عليهم ليدفعوا أكثر.
ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، اتخذ ترامب منحى غير تقليدي في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، متحررا من الأعراف الدبلوماسية التي ميزت الإدارات السابقة، ومعتمدا على أسلوب تصعيدي قائم على التهديد، ثم التراجع، ثم إعادة التهديد، في دورة بدت للكثيرين فوضوية وغير منضبطة.
غير أن هذا النمط، حين يُقرأ ضمن أطر معينة في العلاقات الدولية، لا يبدو عشوائيا تماما، بل يُظهر ملامح إستراتيجية مدروسة، تسعى إلى إرباك الخصوم وتفكيك ثوابتهم. وقد برز هذا الأسلوب بوضوح في تعامل إدارة ترامب مع ملفين مترابطين، هما البرنامج النووي الإيراني، وتهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر، وهما ملفان يعكسان صراعا جيوسياسيا معقدا في قلب الشرق الأوسط.
ولفهم السلوك المتناقض لإدارة دونالد ترامب، لا بد من استحضار بعض النظريات المركزية في تحليل الأزمات الدولية، مثل نظرية الرجل المجنون، وإستراتيجية اللعب على الحافة، ونظرية الردع، والواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة، وهذه النظريات لا تعكس فوضى سياسية، بل تستبطن استخداما مقصودا للتناقض كأداة ضغط وتفاوض، وهو ما يتضح في سلوك ترامب تجاه إيران والحوثيين.
- نظرية الرجل المجنون
تعود جذور هذه النظرية إلى نيكولو مكيافيلي عام 1507م، الذي رأى أن التظاهر بالجنون قد يكون وسيلة فعالة لتحقيق مكاسب سياسية، وتطورت هذه النظرية لاحقا في الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وتقوم على فكرة أن القائد الذي يبدو غير متوقع يرهب خصومه ويدفعهم لتقديم تنازلات خوفا من ردود أفعاله.
وكان الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، أبرز من طبق هذه النظرية، إذ تعمد، بمساعدة مستشاره هنري كيسنجر، الترويج لفكرة أنه مستعد لفعل أي شيء للحرب في فيتنام، بما في ذلك استخدام السلاح النووي، ونفذت واشنطن حينها تحركات عسكرية إستراتيجية لإقناع خصومها بجدية التهديد، لكن تصاعد المعارضة الشعبية للحرب حال دون تنفيذ تلك التهديدات، وظلت فيتنام تقاتل حتى سقوط سايغون، التي كانت عاصمة جنوب فيتنام سابقا.
وقد أعاد دونالد ترامب إحياء هذه النظرية في سياسته الخارجية، وصرح مرارا بأنه "مجنون" لإرباك خصومه، مثل الصين وكوريا الشمالية وإيران. ويرى مستشاروه أن هذه الصورة تمنحه نفوذا تفاوضيا، في حين تربط تحليلات صحفية هذا السلوك بتصاعد نزعة ترامب الإمبريالية، كما يظهر في تصريحاته حول تايوان وجرينلاند وكندا.
ومنذ حملته الانتخابية عام 2016، سعى ترامب لترسيخ صورة الزعيم غير المتوقع، وقال صراحة: "يجب أن نكون الدولة التي لا يعرف أحد ماذا يمكن أن تفعل"، معتقدا بأن ذلك يمنح أمريكا قوة تفاوضية، ووصف نفسه بالمجنون أكثر من مرة، ويرى مؤيدوه أن هذه الصورة ردعت خصوما مثل بوتين، ومنعت مغامرات كبرى خلال ولايته الرئاسية الأولى.
وفي عام 2018، وصف ترامب نفسه بأنه "مجنون" عند سؤاله عن علاقته بكوريا الشمالية، وكرر ذلك في حملته الانتخابية عام 2024، قائلا إن الرئيس الصيني شي جين بينغ يحترمه لأنه "رجل مجنون لعين".
وعلى الرغم من أن هذه اللغة قد تُعد غير لائقة، فإن مؤيديه يرون أنها كانت فعالة، إذ استشهد بعضهم، مثل معهد "أمريكا أولا"، بأن بوتين لم يجرؤ على غزو أوكرانيا أثناء رئاسة ترامب (الأولى) بسبب خوفه من رد غير محسوب.
وخلال ولايته الأولى، صعّد ترامب لهجته ضد كوريا الشمالية، مهددا بـ"نار لم يشهدها العالم"، ثم فاجأ العالم بلقاء الزعيم الكوري الشمالي، وذهب إلى حد القول إنهما "وقعا في الحب"، في مشهد درامي يعكس سلوكه الخارج عن المألوف.
إجمالا، تقوم "نظرية الرجل المجنون" على مبدأ بسيط، وهو إقناع الخصم بأن القائد مستعد لفعل أي شيء، حتى لو بدا بشكل غير عقلاني أو غير متوقع، بهدف دفع الخصم للتنازل خوفا من رد فعل متوقع، وتمثل أداة يستخدمها بعض القادة لتعزيز الردع، عبر ترسيخ صورة الزعيم غير العقلاني، وهو ما قد يكون فاعلا في بعض السياقات، لكنه يظل سلاحا ذا حدين.
وقد أعاد ترامب توظيف هذه النظرية بوضوح، وحرص على أن يظهر في الإعلام الدولي كرئيس لا يمكن التنبؤ بخطواته، فهو يستخدم التهديد المفاجئ، ثم يُتبع بإشارات تراجع، بهدف إرباك الطرف الآخر، وإجباره على الاستجابة دون معرفة ما إذا كان التهديد حقيقيا أم خدعة.
لكن لهذه النظرية حدودا ومخاطر، فكما تُرهب الخصوم، قد تُفقد الثقة بالحليف، وتُضعف قدرة القائد على تقديم ضمانات، والتاريخ يزخر بأمثلة على فشل هذه النظرية، مثل خروتشوف والقذافي وصدام حسين، حيث لم تنجح الصورة "الجنونية" في تحقيق الاستقرار أو التنازلات المرجوة، وتمثل نظرية الرجل المجنون أداة ذات حدين، فهي قد تعزز الردع أحيانا، لكنها مقامرة خطيرة على سمعة الدولة ومصداقية قيادتها.
- نظريات أخرى تفسر تناقضات ترامب
وبالإضافة إلى "نظرية الرجل المجنون"، هناك نظريات ومقاربات أخرى في العلاقات الدولية تتبنى أنماطا من الإرباك والتصعيد والتراجع، كوسائل لإدارة الأزمات وتحقيق المكاسب. ومن أبرز هذه النظريات والممارسات:
• إستراتيجية اللعب على الحافة: تعني هذه الإستراتيجية الدفع بالأزمة إلى أقصى درجات التصعيد أو إلى حافة الانفجار دون تخطي العتبة التي تفجر الحرب، والهدف منها إظهار الاستعداد الكامل للذهاب نحو النهاية، ثم التراجع في اللحظة الأخيرة، بعد انتزاع تنازلات من الطرف المقابل، وهي سلوك شائع في الأزمات النووية والحروب بالوكالة.
• نظرية الردع: تعتمد هذه النظرية على التهديد باستخدام القوة، لإجبار الطرف الآخر على عدم اتخاذ إجراء معين، وأحيانا يتخلل هذا الإجراء نوع من الإرباك أو المواقف المتناقضة لخلق حالة من اللايقين لدى الخصم.
• الواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة: لا تقدم هذه النظريات أسلوبا محددا كما في "الرجل المجنون"، لكنها تؤمن بأن الدول تتصرف بدوافع المصلحة والقوة، وغالبا ما تستخدم التهديدات والمناورات وتغيير المواقف ضمن بيئة دولية فوضوية.
- الحوثيون في ميزان تناقضات ترامب
رغم أن إدارة ترامب صنفت مليشيا الحوثيين منظمة إرهابية، وأحد أدوات النفوذ الإيراني في المنطقة، فإن سياستها تجاه تلك المليشيا اتسمت بقدر كبير من التناقض والغموض، وافتقرت إلى إستراتيجية متماسكة وواضحة، الأمر الذي خلق حالة من الإرباك لدى الأطراف الإقليمية، لا سيما السعودية، الحليف الأوثق لواشنطن في الحرب على الحوثيين.
يتبنى ترامب خطابا سياسيا يندد بالحوثيين ويهددهم بلهجة نارية ويحملهم مسؤولية تهديد أمن المنطقة وخطوط الملاحة الدولية، ويشن عليهم هجمات مكثفة ونوعية منذ منتصف مارس الماضي، ومع ذلك لم تترجم هذه التصريحات إلى تحرك مباشر ودعم نوعي حاسم للسلطة اليمنية الشرعية ضد الحوثيين.
وفي ولايته الرئاسية الأولى، لم تتخذ إدارة ترامب موقفا حازما ضد تصعيد الحوثيين المتكرر حينها، خصوصا ما يتعلق بالهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة على منشآت نفطية داخل العمق السعودي، ثم جاء التحول الأبرز في الأيام الأخيرة من ولاية ترامب الأولى، حين أعلن تصنيف الحوثيين "منظمة إرهابية أجنبية"، إلا أن هذا القرار، رغم رمزيته، أتى في توقيت بدا أقرب إلى ورقة ضغط أخيرة من إدارة راحلة، تدرك أن الإدارة القادمة (بايدن) ستسارع إلى التراجع عنه، وهو ما حدث فعلا.
ومنذ بداية ولايته الرئاسية الثانية، في يناير الماضي، اتخذ ترامب موقفا تصعيديا ضد الحوثيين وإيران، لكنه تصعيد بقي محكوما بإيقاع محسوب لا ينزلق إلى مواجهة شاملة، وهذا التصعيد لم يكن وليد ردود فعل آنية، بل جزء من نمط اتبعته إدارة ترامب يقوم على التلويح بالقوة واستخدام التهديد كأداة تفاوضية، ضمن ما يعرف نظريا بإستراتيجية "اللعب على الحافة" و"الرجل المجنون".
وفي منتصف مارس الماضي، دشنت الولايات المتحدة عملية عسكرية ضد الحوثيين تحت اسم "الفارس الخشن"، استهدفت خلالها مخازن أسلحة، وأنظمة دفاع جوي، ومنصات صواريخ، ومراكز قيادة وسيطرة. وأتى هذا الرد بعد سلسلة هجمات حوثية على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، في تصعيد ربطه ترامب مباشرة بإيران، معلنا أن "كل صاروخ يطلقه الحوثيون مصدره طهران"، ومهددا بمحاسبة إيران على أي تصعيد إضافي.
وفي خضم هذه الهجمات، أطلقت واشنطن رسائل مزدوجة لطهران: من جهة، تصريحات متشددة تطالب بإنهاء البرنامج النووي الإيراني بالكامل. ومن جهة أخرى، مواصلة مسار التفاوض عبر جولات في سلطنة عمان وروما. وهذه الازدواجية لم تكن ارتباكا بقدر ما كانت مقصودة، ضمن سياسة تهدف إلى إبقاء الخصم في حالة غموض إستراتيجي تمنعه من اتخاذ قرارات حاسمة.
في المجمل، تؤكد هذه الوقائع أن إدارة ترامب تعاملت مع الملفين الحوثي والإيراني من منظور واحد: التصعيد التكتيكي المصحوب بإشارات متناقضة، كأداة لإرباك الخصوم وتحقيق اختراقات سياسية في ملفات شديدة التعقيد، ولم يكن الهدف الحسم العسكري، بل التحكم في موازين الردع، وفرض إرادة سياسية بأقل تكلفة ممكنة.
وإذا لم تتحقق تلك الإرادة، سيستمر التصعيد إلى أن يتم إضعاف الخصوم أو يُحسم الأمر عسكريا. وبين التهديد والتفاوض، والتراجع والتصعيد، تبقى "نظرية الرجل المجنون" أداة فعالة أحيانا، لكنها محفوفة بالمخاطر إذا لم تُدار بحذر.