مقالات صحفية


متطلبات التسوية السياسية في اليمن

الأربعاء - 29 يناير 2025 - الساعة 09:06 م

مهند الغرساني
الكاتب: مهند الغرساني - ارشيف الكاتب



تُعدُّ التسوية السياسية في اليمن ضرورةً ملحَّةً في ظلِّ الأوضاع المعقدة التي تمر بها البلاد جرَّاء النزاعات المستمرة والتحديات الكبيرة التي تواجهها. تهدف هذه التسوية إلى تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال وضع حلولٍ جذريةٍ تعالج القضايا الأساسية التي أثرت على حياة اليمنيين. ويتطلب ذلك توافقًا بين الأطراف المختلفة وتقديم تنازلاتٍ متبادلةٍ، بما يسهم في إعادة بناء الدولة وضمان حقوق المواطنين. إنَّ تحقيق التسوية السياسية يتطلب أيضًا عددًا من المتطلبات الأساسية التي تشمل تغييراتٍ في الجوانب الاقتصادية والأمنية، بالإضافة إلى تعزيز الوحدة الوطنية والتوافق بين مختلف المكونات السياسية.

وبناءً على ما سبق، يمكن توضيح متطلبات التسوية السياسية في اليمن على النحو التالي:

١ ) - التسوية الغير مشروطه:

التسوية غير المشروطة تعدّ أحد المفاهيم المهمة في عملية التسوية السياسية للنزاع اليمني، حيث تشير إلى التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتصارعة دون فرض شروط مسبقة. يهدف هذا المفهوم إلى خلق بيئة حوارية خالية من الشروط التعجيزية التي قد تعرقل أي تقدم نحو التسوية السياسية، خصوصًا في السياق اليمني حيث تتعدد الأطراف المتنازعة مثل الحكومة المعترف بها دوليًا، جماعة الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي. يتيح هذا النوع من التسوية المجال لجميع الأطراف للجلوس إلى طاولة المفاوضات والعمل معًا للوصول إلى حلول قابلة للتطبيق.

أحد أبرز فوائد التسوية غير المشروطة هو أنها تفتح قنوات حوار بين الأطراف المتصارعة وتساهم في تجاوز المواقف المتصلبة التي قد تعيق عملية المفاوضات. في النزاع اليمني، كانت الأطراف المختلفة قد وضعت شروطًا معقدة مسبقًا، مما أدى إلى تجميد الحوار لفترات طويلة. بالتالي، تساعد التسوية غير المشروطة في تجاوز هذه الشروط المسبقة وتسمح لجميع الأطراف بالمشاركة في المحادثات، مما يسهم في تيسير عملية البحث عن حلول وسطية.

علاوة على ذلك، تسهم التسوية غير المشروطة في التركيز على القضايا الجوهرية التي تهم جميع الأطراف، مثل وقف إطلاق النار، وترتيب الوضع الاقتصادي، وإعادة الإعمار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية. من خلال عدم فرض شروط مسبقة، يمكن التركيز على إيجاد حلول عملية وواقعية لهذه القضايا بدلًا من الانشغال في تفاصيل قد تكون غير قابلة للتنفيذ أو قد تتسبب في تعقيدات إضافية.

تتمثل إحدى المزايا الأخرى للتسوية غير المشروطة في إتاحة مرونة أكبر في التفاوض، مما يسمح بتعديل المواقف والشروط أثناء سير المفاوضات، وبالتالي تزداد فرص الوصول إلى اتفاق شامل. وفي هذا السياق، يتمكن الأطراف من تقديم تنازلات تكون أكثر قبولًا إذا لم يتم فرض شروط قاسية أو تعجيزية في البداية.

ومع ذلك، لا يخلو هذا النوع من التسوية من التحديات. من أبرز هذه التحديات أن بعض الأطراف قد تشعر بالقلق من تقديم تنازلات كبيرة قد تؤثر على مصالحها الحيوية، خاصة في قضايا حساسة مثل السلاح أو تقسيم السلطة والثروة. كما أن التدخلات الإقليمية والدولية قد تؤثر على سير المفاوضات، حيث يسعى العديد من الفاعلين الدوليين إلى فرض شروط معينة تضمن مصالحهم في المنطقة، مما قد يؤثر على المسار الطبيعي للمفاوضات.

إضافة إلى ذلك، يواجه اليمن تحديًا آخر يتمثل في غياب الثقة بين الأطراف المتنازعة، وهو ما قد يؤدي إلى صعوبة التوصل إلى تسوية فعّالة إذا لم تكن هناك ضمانات حقيقية لتنفيذ أي اتفاقات.

في المجمل، تعد التسوية غير المشروطة أحد السبل التي يمكن أن تساهم في إحياء عملية السلام في اليمن، شريطة أن يكون هناك التزام حقيقي من جميع الأطراف بالإرادة السياسية لتحقيق توافقات شاملة. نجاح هذه التسوية يعتمد بشكل كبير على تعزيز الثقة بين الأطراف وتحقيق ضمانات دولية تضمن تنفيذ الاتفاقات التي يتم التوصل إليها.

٢) - تقديم التنازلات:

تعد التنازلات من العناصر الأساسية التي تساهم في تحقيق التسوية السياسية في اليمن، حيث يتطلب الوصول إلى اتفاق شامل أن تقوم الأطراف المتصارعة بتقديم تنازلات تتعلق بمواقفها ومطالبها السياسية بهدف تحقيق السلام والاستقرار في البلاد.

إن التنازلات لا تعني التراجع أو الضعف، بل هي خطوات استراتيجية تهدف إلى تسهيل التوصل إلى حلول وسط تحقق المصلحة الوطنية. ففي سياق النزاع في اليمن، يتعين على الأطراف المتصارعة تقديم جزء من مطالبها لتحقيق توافق يضمن حقوق الجميع ويحول دون استمرار النزاع. من خلال هذه التنازلات، يمكن معالجة القضايا العالقة مثل توزيع السلطة والثروة، واللتين تعدان من أبرز أسباب الصراع في اليمن.

في هذا السياق، يمثل سقوط العاصمة صنعاء بيد جماعة الحوثي "تحطمًا معنويًا للدولة واستسلامًا لها، لما لها من رمزية سياسية وتاريخية في قلب الدولة، الأمر الذي سوف يعزز موقف الحوثيين من أجل أن يكون لهم نصيب الأسد في العملية السياسية بالسيطرة على مفاصل الدولة" (الشنباري، 2016، 130).

من هنا، فإن هذا التوسع الحوثي في مفاصل الدولة يعزز الحاجة إلى تنازلات من جميع الأطراف المتنازعة، خاصة الحوثيين الذين باتوا يسيطرون على العديد من المؤسسات السياسية. وفي هذا الإطار يلاحظ أن "تمدد الحوثيين كثيرًا في مفاصل الدولة خلال السنوات السابقة، وباتت لديهم مزايا سلطوية كبيرة، أبرزها العاصمة صنعاء، وسيكون من مقتضيات التسوية السياسية تقديمهم تنازلات سياسية مهمة لصالح مؤسسات الدولة" (تقدير موقف، 2023، 11).

من الضروري أن تكون التنازلات متبادلة بين جميع الأطراف المتنازعة، حيث إن التنازل من جهة واحدة قد يؤدي إلى تعميق الهوة بين الأطراف ويعرقل الوصول إلى اتفاق شامل. على العكس، فإن التنازلات المتبادلة تساهم في تعزيز العدالة والمساواة بين الأطراف، مما يعزز فرص التوصل إلى حلول توافقية تلبي احتياجات الجميع.

علاوة على ذلك، يتطلب التزام الأطراف بتقديم التنازلات في إطار من التفاهم والمصلحة الوطنية، حيث يعكس ذلك إرادة حقيقية للسلام ويعزز الثقة بين جميع الفاعلين في العملية السياسية. هذا الالتزام يُعد ركيزة أساسية لبناء الثقة بين الأطراف وخلق بيئة مناسبة للحوار المستمر.

وبناء على ذلك، فإن حجر الزاوية في التسوية السياسية "يتطلب أن تعود مؤسسات الدولة الشرعية لممارسة مهامها في العاصمة صنعاء" (المودع، 2016، 5).

بالمقابل، يمكن القول إن تقديم التنازلات يعد خطوة أساسية نحو تسوية سياسية شاملة في اليمن. من خلال التنازلات المتبادلة، يمكن للأطراف المتصارعة إيجاد حلول توافقية تعزز من استقرار البلاد وتؤدي إلى إنهاء النزاع، مما يحقق السلام والازدهار للشعب اليمني.

3) - ترتيب الوضع الاقتصادي:

يشكل ترتيب الوضع الاقتصادي في اليمن أحد أبرز المتطلبات الأساسية للتسوية السياسية، حيث إن معالجة الأوضاع الاقتصادية تسهم بشكل كبير في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. ومن بين النقاط الهامة التي يجب التركيز عليها في هذا السياق الآتي:

1- توحيد العملة الوطنية:
تعد توحيد العملة الوطنية من الخطوات الضرورية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في اليمن. فعلى الرغم من أن الريال اليمني هو العملة الرسمية للبلاد، إلا أن النزاع الطويل أدى إلى تدهور قيمتها، واختلاف سعر الصرف بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية ومناطق سيطرة جماعة الحوثي. إن توحيد العملة سيسهم في استعادة الثقة في الاقتصاد الوطني ويسهل التعاملات التجارية والمالية بين المناطق المختلفة. كما سيعزز من استقرار الأسعار ويحد من التضخم، مما يساهم في تحسين الوضع المعيشي للمواطنين. لتحقيق هذا الهدف، يجب أن يتم وضع خطة من قبل الحكومة المعترف بها دوليًا والبنك المركزي اليمني لضبط السياسات المالية والنقدية، بالإضافة إلى العمل على استعادة الاحتياطيات النقدية والحد من تأثيرات الحرب على الاقتصاد الوطني.

2- إيقاف هدر المال العام:
إن إيقاف هدر المال العام يعتبر من أهم الأولويات الاقتصادية في اليمن، خاصة في ظل الظروف الراهنة. إن الإنفاق غير الرشيد، سواء كان في شكل فساد إداري أو سوء إدارة للموارد المالية، يمثل أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد. يمكن تحقيق ذلك من خلال اتخاذ إجراءات صارمة ضد الفساد وتعزيز الشفافية في الإدارة المالية العامة. كما يجب العمل على ضبط الإنفاق الحكومي وتوجيه الموارد نحو أولويات أساسية مثل تقديم الخدمات الأساسية، وتحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز قدرة الحكومة على تلبية احتياجات المواطنين. تحقيق الشفافية في إدارة المال العام يعزز الثقة بين الحكومة والشعب ويشجع على جذب الاستثمارات المحلية والدولية.

3- تفعيل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة:
يعد تفعيل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة أحد العوامل المهمة لضمان عدم إساءة استخدام الموارد العامة، وبالتالي ضمان الاستقرار المالي. يعد هذا الجهاز المسؤول عن مراقبة الأداء المالي والإداري في المؤسسات الحكومية والتأكد من أن الأموال العامة تُصرف بالشكل الصحيح. في ظل النزاع المستمر في اليمن، تدهورت فعالية الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، مما أدى إلى زيادة الفساد وسوء إدارة الأموال العامة. لذا، من الضروري إعادة تفعيل هذا الجهاز وتعزيز استقلاليته، بما يضمن شفافية أكبر في العمليات المالية الحكومية. يجب أن يكون هذا الجهاز مزودًا بالقدرة على إجراء التحقيقات المستقلة وتقديم تقارير دورية للرأي العام عن استخدام الأموال العامة، وبالتالي تعزيز المساءلة الحكومية.

وبناءً على ما سبق، فإن ترتيب الوضع الاقتصادي في اليمن يشمل العديد من الجوانب الحيوية التي لا بد من معالجتها لضمان استقرار البلاد على المدى الطويل. إن توحيد العملة الوطنية، وإيقاف هدر المال العام، وتفعيل الأجهزة الرقابية تعد من الأسس الضرورية لبناء اقتصاد قوي ومستدام. لتحقيق ذلك، يجب أن تتمتع الحكومة بالقدرة على تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة تساهم في تحسين الوضع المعيشي للمواطنين وتعيد الثقة في المؤسسات الوطنية. كما يتطلب الأمر التعاون الوثيق مع المجتمع الدولي لدعم جهود إعادة بناء الاقتصاد اليمني. وفي ظل هذه الإصلاحات، يمكن أن يتحقق استقرار اقتصادي يساعد في دعم عملية التسوية السياسية، مما يؤدي إلى إحلال السلام والاستقرار في البلاد بشكل دائم.

4) - ترتيب الوضع العسكري والأمني:

يعتبر ترتيب الوضع العسكري والأمني من المتطلبات الحيوية والضرورية لتحقيق التسوية السياسية في اليمن. فالأوضاع العسكرية والأمنية المتدهورة، بسبب النزاع المستمر منذ سنوات، تمثل أحد العوامل الرئيسة التي تؤثر على استقرار البلاد. لذلك، من الضروري تنفيذ مجموعة من الإجراءات العسكرية والأمنية لضمان التوصل إلى تسوية سياسية دائمة. وتتضمن الآتي:

1- إنشاء لجنة عسكرية مشتركة لدمج وتوحيد القوات والفصائل المسلحة في عموم التراب اليمني:
إن تشكيل لجنة عسكرية مشتركة يعد خطوة أساسية نحو دمج وتوحيد القوات والفصائل المسلحة المختلفة في اليمن. فاليمن يعاني من وجود العديد من الفصائل المسلحة الموالية لمختلف الأطراف السياسية والعسكرية، مثل القوات التابعة للحكومة الشرعية، جماعة الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي. هذا التعدد العسكري يعزز الانقسامات ويصعب من جهود التسوية. من خلال إنشاء لجنة عسكرية مشتركة، يمكن تنسيق الجهود بين هذه الفصائل تحت إشراف دولي أو إقليمي، مما يسهل دمج هذه القوات في جيش واحد موحد ومتعدد الأطياف. ويجب أن تكون هذه اللجنة مسؤولة عن وضع خطط واضحة لدمج العناصر العسكرية، وتنظيمها في تشكيلات عسكرية محترفة تعمل على ضمان الأمن في كافة أنحاء البلاد.

2 - تسليم جميع أنواع الأسلحة:
تسليم جميع أنواع الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، يعد من أهم الخطوات لضمان تخفيف التوترات العسكرية ومنع التصعيد. في ظل انتشار الأسلحة بين مختلف الأطراف المتنازعة، يعاني اليمن من تهديد دائم للأمن المدني والعسكري على حد سواء. لذلك، فإن تسليم الأسلحة من قبل جميع الفصائل المسلحة إلى جهة حكومية موحدة أو لجنة عسكرية متوافق عليها تحت إشراف إقليمي ودولي يعد خطوة ضرورية في اتجاه التهدئة. يجب أن تكون هناك آليات واضحة لتسليم الأسلحة تحت إشراف لجنة مشتركة، وبالتعاون مع الأمم المتحدة أو منظمات دولية أخرى لضمان نزاهة العملية. وفي هذا السياق، فإن تسليم الأسلحة يساعد على إزالة التوترات الميدانية ويضع حدًا لإمكانية تجدد النزاع المسلح.

وهذا يتطلب تحديد آلية دقيقة لحصر الأسلحة المستولى عليها بشكل غير قانوني واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادتها. "سرعة حصر كافة أسلحة القوات المسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة والمتفجرات والمعدات والآليات التي نهبت أو صرفت أو بيعت أو تم التصرف بها بأي شكل مخالف للقانون من مخازن الجيش والأمن وكافة الوحدات العسكرية واتخاذ الإجراءات الحاسمة لاستعادة كافة تلك الأسلحة من كافة الأطراف التي استولت عليها" (وثيقة الحوار الوطني، 2014، 143).

3 - الانسحاب من المدن:
الانسحاب من المدن يعتبر أحد الجوانب الرئيسية لترتيب الوضع العسكري والأمني في اليمن في إطار التسوية السياسية. يعد هذا المطلب خطوة حاسمة نحو تعزيز السلام واستقرار الأوضاع الأمنية في المناطق الحضرية، التي تأثرت بشكل كبير بالنزاع المسلح.

الانسحاب من المدن يساعد في تقليل التوترات العسكرية، خاصة أن العديد من المناطق الحضرية في اليمن شهدت اشتباكات ومعارك عنيفة بين مختلف الأطراف المتنازعة، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية وتشريد المدنيين. عندما يتم الانسحاب من المدن، يتم تجنب التصعيد العسكري داخل المناطق السكانية، وتتاح الفرصة لإعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، مما يعزز من فرص تنفيذ التسوية السياسية بشكل مستدام.

إضافة إلى ذلك، يسهم الانسحاب من المدن في تسهيل عملية إدخال قوات أمنية محايدة ومهنية تعمل على ضمان الأمن الداخلي في هذه المناطق بعد انسحاب القوات العسكرية. هذا يساهم في تهيئة البيئة المناسبة لعودة النازحين إلى ديارهم وتوفير الأوضاع المعيشية المستقرة للمواطنين.

عملية الانسحاب يجب أن تتم بشكل تدريجي ومنظم، بحيث يتم تحديد آليات واضحة لتأمين المواقع التي يتم الانسحاب منها، فضلاً عن تواجد مراقبين دوليين أو طرف ثالث لضمان تنفيذ الاتفاقات بشكل شفاف وآمن.

4 - إصلاح الأجهزة الأمنية:
إصلاح الأجهزة الأمنية يمثل جانبًا مهمًا في استعادة الأمن والاستقرار في اليمن. فقد تعرضت الأجهزة الأمنية، سواء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية أو المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثيين، للتدمير والتشويه نتيجة للنزاع المستمر. يحتاج اليمن إلى جهاز أمني مهني وحيادي، يعمل على حماية المواطنين وحفظ النظام دون تدخل في السياسة أو الانحياز لأطراف معينة. يتطلب الإصلاح الأمني إعادة بناء المؤسسات الأمنية بشكل شامل، وتدريب كوادر جديدة على أسس من المهنية والاحترافية، مع التأكيد على احترام حقوق الإنسان والالتزام بالقوانين المحلية والدولية. كما يجب أن يتم إشراف ومراقبة هذا الإصلاح من قبل جهات مستقلة لضمان تطبيق المعايير المهنية والشفافية.

وتأسيسا على ذلك "يتطلب التوصل لتسوية حقيقية في اليمن ترتيب الأوضاع العسكرية والأمنية قبل الدخول في تسوية سياسية كي لا يتم الانقلاب عليها مجددًا من قبل الأطراف التي تحمل السلاح كما حصل خلال الاتفاقيات السابقة" (دشيلة، 2023).

إجمالا ، ترتيب الوضع العسكري والأمني في اليمن يعد من العناصر الأساسية لأي تسوية سياسية ناجحة. من خلال إنشاء لجنة عسكرية مشتركة لدمج القوات والفصائل المسلحة، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وتطبيق تسليم الأسلحة، والانتهاء من انسحاب القوات من المدن، يمكن للبلاد أن تمهد الطريق لمرحلة جديدة من الأمن والاستقرار. هذه الخطوات، التي يجب أن تتم وفق آليات محكمة وبتعاون وثيق بين الأطراف المحلية والدولية، تساهم في بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة وتؤسس لسلام دائم في اليمن.

5 ) - السلطة الموحدة:

تعد السلطة الموحدة من المتطلبات الأساسية للتسوية السياسية في اليمن، إذ أن تحقيق الوحدة السياسية يتطلب إعادة بناء النظام السياسي على أساس من الشراكة الوطنية والمشاركة الفعالة لجميع الأطراف. في ظل النزاع المستمر، كان من الضروري أن تظل السلطة في اليمن موحدة، حتى تتمكن الدولة من تقديم الخدمات الأساسية وتحقيق الأمن والاستقرار في مختلف المناطق.

تتمثل أهمية السلطة الموحدة في قدرتها على وضع حد لتعددية الجهات المسيطرة في البلاد، ومنع التشرذم الذي يؤدي إلى تزايد الانقسامات. إن الوحدة السياسية تساهم في تعزيز سيادة الدولة وحمايتها من التدخلات الخارجية، وتوفر بيئة مناسبة للحوار بين الأطراف المتنازعة.

لكي تتحقق السلطة الموحدة في اليمن، يجب أن تتضمن التسوية السياسية اتفاقًا شاملًا بين مختلف الفصائل السياسية، مما يضمن تعزيز المؤسسات الدستورية ورفع مستوى التنسيق بين الحكومة الشرعية وبقية الأطراف. هذا الأمر سيساهم في إقامة نظام سياسي مستقر وقادر على إدارة الأزمات واتخاذ قرارات جماعية تلبي احتياجات المواطنين.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن التسوية الشاملة تحتاج إلى وجود سلطة موحدة، مما يشير إلى ضرورة احتكار لأدوات القوة وبالتالي اتخاذ القرارات السادية" (جهاد، 2024 ).

بذلك، تعتبر السلطة الموحدة شرطًا أساسيًا لإعادة بناء الدولة اليمنية على أسس من العدالة والشفافية والمساواة، وهو ما سيمكن اليمن من تجاوز أزماته المتعددة والعودة إلى المسار الصحيح نحو السلام والتنمية المستدامة.

6 ) - التوافق والمصالحة الوطنية:

التوافق والمصالحة الوطنية يمثلان عنصرين رئيسيين لتحقيق التسوية السياسية في اليمن، ويعكسان أهمية التفاهم والتناغم بين مختلف الأطراف المعنية في الصراع المستمر. فعلى الرغم من الظروف الصعبة التي تعاني منها البلاد، فإن التوصل إلى توافقات سياسية يُعد خطوة أساسية تساهم في إعادة بناء الثقة بين جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي المسلحة.

تتطلب عملية تحقيق هذا التوافق إنشاء منصة فعالة للحوار، توفر للأطراف المتصارعة فرصة للتواصل والتباحث حول القضايا الخلافية. يجب أن تُعزِّز تلك المنصة من فرص تبادل الآراء والأفكار، مما يسهم في فهم مشترك للأوضاع الراهنة واحتياجات العملية السياسية. من خلال هذه الآلية، يتمكن الأطراف من معالجة الخلافات بشكل سلمي، مما يساعد على تجنب أي انزلاق محتمل إلى العنف الذي قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع.

إن الحوار البناء لا يُعتبر مجرد وسيلة لحل النزاعات، بل هو عملية تحويلية تهدف إلى بناء علاقات جديدة مبنية على الاحترام المتبادل. فعندما يتمكن الأطراف من تبني موقف حواري، فإن هذا سيساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في البلاد. تجدر الإشارة إلى أن التوافق لا يعني بالضرورة توافق آراء الجميع، بل يتطلب قبول الخلافات والتعايش معها ضمن إطار من التفاهم والاحترام.

من جانب آخر، يصبح تعزيز عملية الدمج السياسي ممكنًا عندما يتمكن جميع الأطراف من الاعتراف بمصالح الآخرين. فعند توفير فرص حقيقية للجميع للمشاركة في صنع القرار، ينتج عن ذلك نظام سياسي يعكس التنوع الثقافي والاجتماعي في المجتمع اليمني. كما يسهم هذا في تقوية المؤسسات الوطنية، مما يساعد على إعادة التأهيل التنموي والسياسي للبلاد.

وفي السياق، لا شك أن المصالحة والتوافق الوطنيين يُعدان مفتاحًا للتسوية السياسية في اليمن. يتطلب هذا التزامًا حقيقيًا من جميع الفاعلين، بالإضافة إلى الدعم الفعال من المجتمع الدولي. من خلال جهود مشتركة، يمكن أن يتحقق مستقبل أكثر إشراقًا للبلد، يُبنى على أسس من السلام والأمن، بعيدًا عن دوامة العنف والصراع التي عانت منها اليمن لعقود. بالتالي، فإن العمل نحو مصالحة شاملة يعكس تطلعات الشعب اليمني نحو الاستقرار ورفاهية مستقبلية.

وفي هذا، فإن "صناعة التوافق يحتاج لسياسة النفس الطويل، والصبر على التحديات مع توفير الإرادة الجادة في تهيئة الشروط الموضوعية داخل النخب" (الغرباوي، 2022، 37).

7) - البناء على ماسبق(المخلافي ، 2023 ، 197):

ينبغي أن تبدأ المشاورات والمفاوضات بالاستناد إلى التوافقات التي تحققت سابقًا، مع الاستفادة من الجهود المبذولة في مشاريع مثل اتفاق الكويت، واتفاق ستوكهولم، واتفاق الرياض. كما يجب أخذ قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالصراع بعين الاعتبار، وخاصة القرار "2216"، بالإضافة إلى اعتماد المرجعيات الأساسية لمبادرة دول مجلس التعاون الخليجي وآلية تنفيذها، فضلاً عن وثيقة الحوار الوطني الشامل واتفاق الرياض وما يتصل به.

8) - إطلاق عملية سياسية شاملة:

إطلاق عملية سياسية شاملة يعد من المتطلبات الأساسية لتحقيق التسوية السياسية في اليمن، حيث إن هذه العملية تسهم في معالجة القضايا الجوهرية التي تسبب النزاع وتؤدي إلى استقرار دائم في البلاد. تتضمن هذه العملية عدة خطوات هامة، وفي مقدمتها:

1- إطلاق حوار سياسي يمني - يمني:
إن الحوار السياسي يعد أساسًا لتوحيد الرؤى بين الأطراف اليمنية المتنازعة. ويجب أن يركز هذا الحوار على القضايا الجوهرية التي تسببت في الصراع الدائر، مثل شكل الدولة المستقبلي، وتقاسم السلطة بين الأطراف المختلفة، والقضية الجنوبية التي تمثل إحدى القضايا الشائكة في اليمن، بالإضافة إلى العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار بعد سنوات من الحرب. من الضروري أن يكون الحوار تحت قيادة يمنية، بحيث يتحمل اليمنيون أنفسهم مسؤولية صياغة مستقبل بلادهم، مع دعم دولي مستمر، لا سيما من قبل الأمم المتحدة، وبتعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي.

كما يجب أن يشمل الحوار جميع الأطراف اليمنية بما في ذلك جماعة الحوثي ، مع المكونات الأخرى في الساحة السياسية. من المهم أيضًا أن تكون هناك مشاركة فعالة من مكونات المجتمع المدني، والجماعات النسائية والشبابية، لما لهم من دور كبير في صياغة المستقبل السياسي والاجتماعي لليمن.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتضمن الحوار الإصلاحات الدستورية اللازمة، وصياغة دستور جديد يعكس تطلعات الشعب اليمني كافة، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية تؤمن بالعدالة والمساواة.

2- تشكيل حكومة متوافق عليها:
بعد التوصل إلى تفاهمات حول القضايا الجوهرية عبر الحوار الوطني، يكون من الضروري تشكيل حكومة توافقية تضم جميع الأطراف اليمنية الرئيسية. يجب أن تكون هذه الحكومة قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية وتحقيق التوافق السياسي بين مختلف القوى السياسية والمكونات الاجتماعية. تشكيل حكومة تمثل الجميع يعزز من شرعية الحكومة في عيون الشعب اليمني، ويوفر بيئة ملائمة لإطلاق عملية إعادة الإعمار وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية اللازمة.

3- استكمال مهام المرحلة الانتقالية:
تتطلب المرحلة الانتقالية تنفيذ العديد من المهام الضرورية، بدءًا من إعادة بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية، وصولًا إلى إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة جراء النزاع. يجب أن تتضمن هذه المرحلة إجراءات لتسوية القضايا السياسية المتبقية، مثل إصلاح النظام الانتخابي، والتوصل إلى اتفاقات بشأن كيفية تقاسم السلطة والثروة، وتنفيذ تدابير العدالة الانتقالية لمعالجة آثار الصراع.

بناءً على ما سبق، فإن إطلاق عملية سياسية شاملة يمثل حجر الزاوية لأي تسوية سياسية ناجحة في اليمن. من خلال الحوار السياسي الشامل وتشكيل حكومة متوافقة، يمكن لليمن أن يمضي قدمًا نحو استعادة الاستقرار وتعزيز السلام، بالإضافة إلى استكمال المهام الانتقالية التي تضمن البناء المستدام لمؤسسات الدولة.

9 ) - معالجة القضايا الأساسية:

تعد معالجة القضايا الأساسية من العوامل الحاسمة التي تؤثر بشكل كبير في التسوية السياسية في اليمن، حيث تمثل هذه القضايا جوهر النزاع المستمر في البلاد. وهناك قضايا بارزة يجب العمل على إيجاد حلول جذرية وشاملة لها لضمان تأسيس أرضية صلبة لتحقيق تسوية سياسية دائمة، ومن أبرزها قضية شكل الدولة والقضية الجنوبية.

أولاً: شكل الدولة:
تشكل قضية شكل الدولة القضية الاولى في قائمة متطلبات التسوية السياسية في اليمن، ويتطلب حلها مجموعة من المحددات الأساسية التي يمكن توضيحها على النحو التالي:

1. متطلبات النظام الاتحادي:
تُعد فكرة النظام الاتحادي من الركائز الأساسية التي يجب تبنيها في تسوية النزاع اليمني. يعتمد هذا النظام على تقسيم الدولة إلى وحدات إدارية ذات حكم ذاتي، مما يساهم في تحقيق توازن القوى بين مختلف المناطق والفصائل السياسية. لضمان نجاح هذا النظام، من الضروري تحقيق المساواة في توزيع السلطة والموارد بين الأقاليم المختلفة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على وحدة الدولة اليمنية. يتطلب هذا الأمر وضع تشريعات واضحة تحدد صلاحيات كل إقليم، بالإضافة إلى ضمان استقلالية كل إقليم في إدارة شؤونه الداخلية، مع التنسيق الكامل مع الحكومة المركزية.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن "الانتقال إلى النظام الفيدرالي في بلد مضطرب مثل اليمن لا يمكن تحقيقه بسهولة، حيث يحتاج إلى نظام سياسي قوي قادر على حماية وحدة الدولة" (دشيلة، 2023، 19).

علاوة على ذلك، تشير الظروف الراهنة في اليمن إلى أن الانتقال من نظام الدولة الواحدة إلى الفيدرالية يعد مخاطرة غير محسوبة، وقد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع. لذا، من المحتمل أن يتم تأجيل الانتقال إلى الفيدرالية الكاملة لمدة خمس سنوات على الأقل، حتى تتحسن الأوضاع الاقتصادية ويتوفر الدعم اللازم لإجراء الانتخابات وتفعيل مؤسسات الدولة (أبو حاتم، 2014).

2. متطلبات نظام الحكم المحلي:
لتعزيز الديمقراطية وتطوير الإدارة المحلية، يجب العمل على تعزيز نظام الحكم المحلي في اليمن. يهدف هذا النظام إلى تمكين المواطنين من اتخاذ قرارات تؤثر بشكل مباشر في حياتهم اليومية. يتطلب ذلك بناء مؤسسات محلية قوية تتمتع بصلاحيات واسعة في مجالات مثل التعليم والصحة والتنمية، مع ضمان الشفافية والمساءلة. يجب أن يكون النظام المحلي داعماً لعملية التنمية المستدامة في جميع المناطق اليمنية، ويشمل آليات فعالة لتحقيق العدالة في توزيع الموارد والخدمات.

في هذا السياق، يمكن القول إن "اليمن يحتاج إلى نظام إداري يتسم باللامركزية الإدارية بين المركزية السياسية واللامركزية السياسية. ومن الضروري أن يتم تطبيق هذا النظام خلال المرحلة المقبلة، بما يشمل عملية الانتقال السياسي بعد انتهاء الحرب" (دشيلة، 2023، 23).

مما سبق، يتضح أن التسوية السياسية في اليمن تتطلب معالجة شاملة للقضايا الأساسية، مثل شكل الدولة وقضية الحكم المحلي. إن تطبيق نظام اتحادي قوي وتطوير آليات فعالة للحكم المحلي يعدان من الركائز الأساسية لضمان سلام دائم واستقرار مستدام في البلاد. يجب أن تسعى جميع الأطراف المعنية إلى تحقيق توافق واسع يستند إلى العدالة والمساواة، مع الالتزام بالتشاور والتعاون في كل مراحل العملية السياسية. انطلاقاً من ذلك، يتعين بذل جهود فاعلة لتعزيز الوحدة الوطنية، لتحقيق تطلعات الشعب اليمني نحو السلام والتنمية المستدامة.

ثانيًا: القضية الجنوبية
تُعد القضية الجنوبية القضية الثانية في قائمة متطلبات التسوية السياسية في اليمن، ويتطلب حلها مجموعة من المتطلبات الأساسية التي يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- إعادة تعريف القضية الجنوبية:
تمثل القضية الجنوبية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في النزاع اليمني، ويتطلب حلها إعادة تعريفها بشكل شامل، بعيدًا عن المواقف السياسية السطحية. في هذا السياق، يمكن تعريف القضية الجنوبية على أنها قضية سياسية بامتياز، تكتسب مشروعيتها من كونها قضية وطنية تتعلق بوطن واحد. وبالتالي، يجب حل هذه القضية داخل إطار الدولة، سواء بقيت الدولة بسيطة أو تحولت إلى دولة اتحادية مركبة، أو عبر اعتماد نظام حكم محلي يتمتع بكامل الصلاحيات. وأي مقاربة أخرى قد تُعد ضربًا من العبث.

2 - وضع إطار خاص بالقضية الجنوبية في مشاورات الحل النهائي:
تُعتبر معالجة القضايا الأساسية أحد متطلبات التسوية السياسية في اليمن، حيث تبرز القضية الجنوبية كأحد أبرز هذه القضايا. من الضروري أن تتضمن المشاورات المتعلقة بالحل النهائي إطارًا خاصًا بالقضية الجنوبية، يعالجها بشكل منفصل عن القضايا الأخرى، لتفادي تهميشها. يجب أن يضمن هذا الإطار أن تظل القضية الجنوبية في طليعة المفاوضات، مما يستوجب تقديم حلول عادلة وشاملة تراعي خصوصيات الجنوب وتلبي تطلعات أبنائه.

وفقًا لذلك ، يمثل "خيار الدولة الاتحادية المدخل الموضوعي لحل القضية الجنوبية ومعالجة النتائج الكارثية لحرب 1994م. ويمثل آلية ناجحة لمواجهة المشروع الطائفي الذي يدّعي بالحق الإلهي في الحكم وحصره في ولاية البطنين، كما يمثل مصداً وطنياً أمام تنامي الدعوات الجهوية في أرجاء مختلفة من البلاد"(السامعي، 2022، ٨).

وفي هذا السياق ، فإن خيار الدولة الاتحادية يمثل الحل الأكثر ملائمة لتحقيق التوازن السياسي والاجتماعي في اليمن، ويعزز من الوحدة الوطنية في إطار التنوع الثقافي والجغرافي للبلاد.

إضافةً إلى ذلك، يتعين أن يتضمن هذا الإطار استراتيجيات فعالة لتعزيز الشفافية والمشاركة المجتمعية في عملية اتخاذ القرار، مما يسهم في بناء الثقة بين الفرقاء المتفاوضين. كما ينبغي أن يُعزز هذا الإطار من آليات الحوار المباشر بين الأطراف المعنية، بما يضمن تمثيل كافة فئات المجتمع اليمني وإدماج أصواتهم في عملية التسوية.

إن تحقيق هذه الأهداف سيساهم في خلق بيئة مناسبة للحوار، مما يمكّن اليمنيين من التوصل إلى حلول مستدامة تحقق السلم الاجتماعي وتؤسس لمستقبل أفضل للبلاد.

من هنا، يتضح أن إنجاح الحوار السياسي يتطلب إدماج القضية الجنوبية في كافة جوانب المشاورات. إن التغافل عنها قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع وزيادة حدة الصراعات. لذا، من الضروري أن يتمتع هذا الإطار بدعم الأطراف السياسية المحلية، وأيضًا بمساندة المجتمع الدولي، لضمان تحقيق التسوية السياسية المستدامة التي تلبي احتياجات جميع اليمنيين.

3 - الحوار الشامل:
الحوار الشامل بين الأطراف الجنوبية والحكومة المركزية يُعتبر الأساس للوصول إلى حل جذري للقضية الجنوبية. يجب أن يكون هذا الحوار شاملًا ويضم جميع الفئات السياسية والاجتماعية في الجنوب، من خلال آلية تضمن المشاركة الفاعلة من جميع الأطراف، بما في ذلك المجلس الانتقالي الجنوبي، والمجتمع المدني، والجماعات النسائية والشبابية. ويجب أن يتم هذا الحوار تحت إشراف الأمم المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، مع ضمان عدم استبعاد أي طرف.

وفي هذا السياق، فإن "الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية هو الذي سيحدد شكل الدولة... فالشكل هنا تحدده المعرفة الموضوعية بهذه القضية، وليست التوجهات الأيديولوجية والحسابات السياسية لمكونات الحوار وأطرافه" (شمسان، 2015، 31).

إن الحوار الشامل يُعد السبيل الأمثل للوصول إلى توافق يضمن حلًا عادلًا ودائمًا للقضية الجنوبية. ويجب أن يعكس هذا الحل توازنًا بين مختلف الأطراف ويأخذ في الاعتبار تطلعات أبناء الجنوب في تحقيق العدالة والمساواة، مع الحفاظ على وحدة اليمن وضمان حقوق كافة المواطنين في جميع المناطق. ويستدعي ذلك مشاركة جميع الفئات دون استثناء، وفتح المجال لبناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وهو ما يتطلب أيضًا دعمًا إقليميًا ودوليًا لضمان استمرارية العملية السياسية وتحقيق نتائج ملموسة.

4 - أن أي حل يجب أن يكون محل رضى وقبول أبناء الجنوب:
أحد النقاط الجوهرية في حل القضية الجنوبية هو ضرورة أن يكون أي حل يطرح محل قبول ورضا جميع أبناء الجنوب. لا يمكن لأي حل أن يكون ناجحًا إذا لم يوافق عليه أبناء الجنوب بشكل عام، ويجب أن يتم التوصل إليه من خلال مشاورات واسعة تضمن مشاركة فعالة لكل فئات المجتمع الجنوبي، بما في ذلك السياسيين، والمجتمع المدني، والجماعات الشبابية والنسائية.

5 - الالتزام بما سيتم الاتفاق عليه:
الالتزام بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه في الحل النهائي هو أمر حاسم في تحقيق التسوية السياسية في اليمن. يجب أن تكون هناك آليات قوية وشفافة للمراقبة والتقييم لضمان التزام جميع الأطراف بما تم الاتفاق عليه، بما في ذلك تشكيل لجان خاصة لمتابعة تنفيذ القرارات وتنفيذ الإجراءات القانونية والتشريعية اللازمة لتطبيق الحلول التي تم التوصل إليها.

6 - الحلول والضمانات:
من الضروري توفير الضمانات الكافية لتطبيق الحلول المقترحة للقضية الجنوبية، بحيث تكون هناك آليات واضحة لضمان تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه بين الأطراف المعنية. يجب أن تشمل هذه الضمانات حماية حقوق أبناء الجنوب، بالإضافة إلى ضمان تنفيذ مشاريع التنمية وإعادة الإعمار في الجنوب بشكل متوازن، بما يضمن تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.

في المجمل، تعد القضية الجنوبية من أبرز التحديات التي تواجه التسوية السياسية في اليمن، ويتطلب حلها منهجًا شاملًا وعادلًا يأخذ بعين الاعتبار تطلعات أبناء الجنوب ويضمن تحقيق العدالة والمساواة في إطار وحدة الوطن. يتطلب ذلك إعادة تعريف القضية الجنوبية، وضع إطار خاص بها في المشاورات السياسية، وتفعيل الحوار الشامل بين كافة الأطراف المعنية. كما يجب أن يتم التوصل إلى حلول مقبولة من جميع فئات المجتمع الجنوبي، مع الالتزام بتنفيذ الاتفاقات وتوفير الضمانات اللازمة لضمان استدامتها. من خلال هذه المقاربات، يمكن لليمن أن يحقق تسوية سياسية مستدامة تسهم في بناء مستقبل أفضل يعزز الوحدة الوطنية ويحقق السلم الاجتماعي.

ثالثا : قضية بناء الدولة:
تُعدُّ قضية بناء الدولة في اليمن من القضايا المحورية التي يتطلب حلها توجهًا شاملاً يراعي تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. ويحتاج بناء الدولة اليمنية إلى مجموعة من المتطلبات الأساسية التي تساهم في إعادة بناء المؤسسات الحكومية وتعزيز قدرتها على تقديم الخدمات للمواطنين.

من أهم هذه المتطلبات إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وتفعيل دورها في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين بشكل عادل وشفاف. يجب أن تكون هذه المؤسسات قادرة على تقديم الرعاية الصحية والتعليم والأمن والخدمات الأخرى التي تمس حياة المواطنين اليومية، مما يساهم في تحسين نوعية الحياة بشكل عام.

إلى جانب ذلك، يتطلب بناء الدولة تطوير النظام السياسي بحيث يعكس التنوع الاجتماعي والجغرافي في اليمن. يجب أن يكون النظام السياسي مستدامًا، ويشمل جميع الفئات السياسية والمجتمعية، ما يضمن تمثيل كافة الأطياف في مؤسسات الدولة. هذا النوع من النظام يعزز التعددية السياسية ويضمن مشاركة فاعلة من الجميع.

من ناحية أخرى، يحتاج بناء الدولة إلى استراتيجيات تنموية فعالة تهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي وزيادة فرص العمل. يجب أن يكون توزيع الثروات بشكل عادل بين مختلف المناطق أحد الأهداف الرئيسية لهذه الاستراتيجيات، خاصة في المناطق التي تعرضت للنزاع. كما ينبغي أن تشمل هذه الاستراتيجيات مشاريع إعادة الإعمار، مع التركيز على المناطق الأكثر تضررًا، لضمان توازن التنمية بين كافة أنحاء اليمن.

وضمن هذا السياق، يصبح من الضروري ضمان العدالة والمساواة في توزيع الموارد، إذ يجب معالجة الفوارق التنموية بين الشمال والجنوب لتفادي تهميش أي طرف من الأطراف اليمنية. كما أن إنشاء نظام قضائي مستقل وفعال يعد من الركائز الأساسية لبناء دولة تقوم على سيادة القانون وحماية حقوق المواطنين، مما يعزز الثقة في المؤسسات الحكومية.

علاوة على ذلك، يجب أن تشمل عملية بناء الدولة إعادة بناء الثقة بين الشعب والدولة من خلال إشراك جميع الأطراف في العملية السياسية. يعزز هذا الحوار الوطني الذي يضمن تمثيل مختلف القوى السياسية والاجتماعية في البلاد ويعكس التعددية التي تتميز بها اليمن.

وبناء على ما سبق، يتطلب بناء الدولة اليمنية جهودًا منسقة بين جميع الأطراف المحلية والدولية لضمان استدامة السلام وتحقيق التنمية الشاملة. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب العمل الجاد والمستمر من أجل مصلحة جميع أبناء اليمن، ليعيشوا في دولة قادرة على توفير احتياجاتهم وتحقيق الاستقرار الذي ينشدونه.

10 ) التعامل الإيجابي:

يُعدُّ التعامل الإيجابي أحد المتطلبات الأساسية في التسوية السياسية في اليمن، حيث يتطلب بناء الثقة بين جميع الأطراف المعنية وتوجيه الجهود نحو تحقيق السلام والاستقرار في البلاد. ويتطلب هذا التعامل الإيجابي اعتماد سياسة منفتحة ومرنة، تركز على الحوار والتفاهم، بدلاً من التعنت والمواقف السلبية التي قد تؤدي إلى تأزيم الأوضاع.

من أهم جوانب التعامل الإيجابي هو الاعتراف بحقوق جميع الأطراف ومراعاة مصالحهم الوطنية، مع التركيز على ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية التي تشمل جميع الفئات السياسية والاجتماعية في اليمن. يجب أن يكون هناك استعداد حقيقي للتنازل من أجل المصلحة العامة، بما يسهم في خلق بيئة مناسبة للحوار والمفاوضات.

كما يتطلب التعامل الإيجابي الابتعاد عن التحريض والتصعيد الإعلامي، والعمل على تعزيز لغة الحوار والتفاهم بين الفرقاء السياسيين. يجب أن تكون الأولوية للمصلحة الوطنية العليا، مع التركيز على بناء الثقة المتبادلة بين الأطراف المختلفة. في هذا السياق، " يجب أن يلتزم كل طرف من أطراف الصراع بأية اتفاقية يتم الوصول إليها على أنها اتفاقية تخصه هو، ويجب عليهم - كذلك - الالتزام بتحمل مسؤولياتهم تجاه تنفيذ الاتفاقية" (فالنستين، 2006، 18).

علاوة على ذلك، يتطلب التعامل الإيجابي أن تكون جميع الأطراف مرنة في التعامل مع التحديات، وأن تضع حلولًا وسطًا تراعي احتياجات وتطلعات مختلف فئات الشعب اليمني. ينبغي أن يشمل ذلك فتح قنوات للتواصل المستمر، بما يضمن تبادل الأفكار والمقترحات والتوصل إلى توافقات حقيقية.

يتطلب أيضًا تعزيز التفاهم المتبادل بين الأطراف المتنازعة، وهو ما يستدعي من الجميع إظهار مرونة في التوصل إلى حلول وسطية قابلة للتنفيذ. ويجب أن يكون التعامل الإيجابي جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة في توزيع السلطة والثروات، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والجغرافية لكل منطقة في اليمن.

إضافة إلى ذلك، يشكل دعم المجتمع الدولي جانبًا أساسيًا في تعزيز التعامل الإيجابي، حيث يمكن أن يلعب دورًا مهمًا في تسهيل المفاوضات وتشجيع الأطراف على اتخاذ مواقف بناءة. كما يجب أن يكون هناك التزام واضح من الجميع بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه خلال المفاوضات، مما يعزز من مصداقية العملية السياسية ويسهم في الحفاظ على الاستقرار.

في المقابل، يشكل التعامل الإيجابي الأساس الذي يمكن أن يؤدي إلى تسوية سياسية ناجحة في اليمن، إذ يعزز من فرص التوصل إلى حل شامل وعادل يضمن حقوق الجميع ويحقق السلام الدائم في البلاد.


وفي الختام، فإن نجاح التسوية السياسية في اليمن يعتمد على استجابة الأطراف المعنية لمتطلباتها الأساسية، بدءًا من التسوية غير المشروطة وصولًا إلى معالجة القضايا الجوهرية. يتطلب طرح الحلول النظرَة الشاملة والتعامل الإيجابي مع التحديات، بالإضافة إلى التزام الجميع بالمصالحة الوطنية وبناء السلطة الموحدة. إذا تم الالتزام بهذه المتطلبات، فسوف يتمكن اليمن من الخروج من الأزمات المتعددة والتوجه نحو بناء مستقبلٍ أفضل يسوده السلام والاستقرار. إنَّ الطريق أمام اليمنيين طويل، ولكن من خلال التعاون والتفاهم، يمكن تحقيق الأهداف المنشودة وبناء دولة تعكس تطلعات الشعب.


قائمة المصادر والمراجع:

اولا: المصادر:
١- مخرجات الحوار الوطني الشامل. صنعاء، 25 يناير 2014. https://www.ndye.net


ثانيا: المراجع:

اولا : الكتب :
١- الغرباوي، ياسر. "بناء التوافق الوطني في بلدان الربيع العربي: الكوابح - البدائل - الفرص." مكتبة الأسرة العربية، ط ١، 2022.

٢- فالنستين، أ.د. بيتر. مداخل إلى فهم تسوية الصراعات: الحرب والسلام والنظام العالمي. ط١، 2006. عمان: المركز العلمي للدراسات الاستراتيجية، ترجمة د. سعيد فيصل السعد، محمود دبور.

2- المخلافي، د. محمد. مشروع بناء الدولة والحرب في اليمن: الرؤية الوطنية لمشروع بناء الدولة. الجزء 3، ط2، 2023، حضرموت: عناوين Books رؤية عصرية للنشر.

ثانيا: رسائل الماجستير:

1 - الشنباري، سفيان أحمد محمود. السياسة السعودية تجاه اليمن في ضوء تحولات الحراك الشعبي (2011-2015). رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الأزهر-غزة، 2016.


ثالثا: الدراسات:

١ - شمسان، طاهر. "القضية الجنوبية الجذور.. المحتوى.. الحل." مركز مسارات الاستراتيجيا والإعلام، 27 فبراير 2015. https://masaratcsm.org/masarat/ar/?p=227.

رابعا : المواقع الإلكترونية:

1 - أبو حاتم ، عارف . "فيدرالية اليمن عنوان لبناء الدولة أم للانهيار؟ ، الجزيرة نت ، https://aja.me/qhvqfg

2 - تقدير موقف. "مآلات المساعي السياسية لحل الأزمة في اليمن." المعهد الدولي للدراسات الإيرانية, 19 نيسان 2023. https://rasanah-iiis.org/

3 - دشيلة ، عادل ." تحديات التسوية السياسية في اليمن وسيناريوهات المستقبل ، منتدى فكرة ، 23 مايو 2023. https://www.washingtoninstitute.org

4 - دشيلة، عادل ." اليمن اللامركزية الإدارية الواسعة لاستيعاب النزاعات الانفصالية والطريق نحو الفيدرالية، مركز المخأ للدراسات الاستراتيجية، مايو 2023. https://wp.me/pghRh9-iE

5 - السامعي ، عيبان : نظام الدولة الاتحادية وأهميته في بناء اليمن الجديد، "ورقة عمل مقدمة للندوة التي يقيمها المكتب الفني لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني ــ مدينة تعز ــ 26 يناير 2022"، الرابط: https://www.ndye.net/articles/01-26-2022#

6 - المودع، عبدالناصر. "التسوية السياسية في اليمن: المعوِّقات والآفاق." Al Jazeera Centre for Studies, أيار 2016. http://studies.aljazeera.net/reports/2016/05.

7 - نصر، جهاد. "تطور المشهد اليمني في ضوء التغيرات الإقليمية والدولية." مركز رع للدراسات الاستراتيجية. https://rcssegypt.com




شاهد ايضا


مقتل وإصابة مدنيين في إب جراء صراع مسلح حول قطعة أرض بين فصائل متنازعة ...

الأربعاء/05/فبراير/2025 - 12:21 م

لقي شاب مصرعه وأصيب اثنين آخرين بينهم طفل، برصاص مسلحين كانوا يتبادلون إطلاق النار فب أحد أسواق مدينة يريم، شمالي إب (وسط اليمن) في ظل فوضى أمنية عارم


تصريحات ترامب حول غزة تثير انتقادات دولية حادة وتؤجج التوترات في المنط ...

الأربعاء/05/فبراير/2025 - 11:38 ص

أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة ستسيطر على قطاع غزة بعد إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى ردود فعل حادة فيما يلي أبرز


اليمن الأمن في تعز يلقي القبض على مطلوباً في قضية قتل ثلاثة مواطنين ...

الأربعاء/05/فبراير/2025 - 11:13 ص

عنوان مناسب جدا قالت الأجهزة الأمنية في شرطة محافظة تعز، إنها تمكنت من إلقاء القبض على مطلوب في قضية قتل ثلاثة مواطنين وقعت بمدينة تعز قبل ثلاث سنوات