الاقتباسات المكذوبة.. تسطيح الأدب وتمييع الثقافة

الأحد - 19 يناير 2025 - الساعة 09:26 ص

الكاتب: عبدالعليم سنان - ارشيف الكاتب

"ثقافاتنا النائمة في رُكودٍ مُستنقعيِّ، يُهدهدها ويطربها صوتُ شخيرها، وإذا استفاقت فلا لشيء سوى لوضع العصيِّ بين الدواليب أو لنشر الشائعات والهلوسات والإفتراءات أو لتعزيز دساتير الجهل والفِصام والسكيزوفرينيا والتخلّف والخُبث والتكاذب وفنون الإختباء وراء الإصبع الوُسطى".
من كتاب "هكذا قتلتُ شهرزاد": للكاتبة اللبنانية جمانة حداد.. أخذت هذا الاقتباس المنشور على النت، للانطلاق منه إلى مناقشة هذا الشخير الذي اقتحم صفحات التواصل الاجتماعي على اختلافها، كضجيجٍ غطى على متنفسات الأدب والفلسفة والمنطق الذي طالما اجتهد عمالقتها لايصاله إلينا.
شكسبير، أرسطو، تولستوي، نجيب محفوظ، مصطفى محمود، وغيرهم الكثير، نجد في صفحات التواصل الاجتماعي مقولات سطحية منسوبة لهم لكن لا تمت لهم بصلة، حيث تأتي في شكل صور على أنها حكم وأمثال أو ما شابه ذلك، والغريب أننا نجد متابعين كثر وتداول مهول لهذه الاقتباسات المكذوبة والركيكة التي تعمد إلى تسطيح الأدب وتمييع الثقافة وتعزيز الجهل، بعيدا عن الحقيقة والقيمة الثقافية والأدبية لانتاجات هؤلاء الآباء في الأدب والفلسفة، حيث يستفيد أصحابها من ميزة السرعة الفائقة في الوصول والتواصل والتفاعل، متخذين في ذلك أساليب مخادعة من الإشباع التي قد تنسجم بها المقولات مع ظروف القراء والمتابعين فيهرعون لتناقلها ويسرعون في نشرها، بل ويعتبرونها ومضات مفيدة بعيدا عن حقيقة النص وافتقاره إلى دسامة الطرح، فالمتلقي هنا غالبا ما يكون متسرعا لاهثا معتادا على الوجبات السريعة، وإن كانت سامة، على سبيل المثال، اقتباس مزيف يُنسب إلى شخصية مشهورة مثل "أينشتاين" أو "شكسبير" أو "طه حسين" أو "غاندي" يمكن أن يتم تداوله في الآلاف من المشاركات في لحظات، وقد يُعيد الأشخاص نشره معتقدين أنه صحيح فقط لأنهم رأوه في أكثر من مكان. هذا النوع من الانتشار السريع يجعل التحقق من صحة المعلومات أمرًا أكثر صعوبة.
الظاهرة ليست وليدة اللحظة، والظاهر ليس بجديد، حتى النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء والأئمة والتابعين نسبت إليهم أقوالٌ مكذوبة لامضاء معنىً ما في نفوس الناس وتصرفاتهم، سعيا وراء تحقيق أهداف ملغومة أو تشويه مفاهيم أو إبطال عقائد أو غير ذلك، والحقيقة العامة قديما وحديثا تؤكد أن الاقتباسات المكذوبة تؤدي غالبا إلى تحريف الفهم العام لمفاهيم عميقة، وتعزز الانطباع الخاطئ بأن القيم الفكرية والفلسفية يمكن تلخيصها في كلمات بسيطة دون التعمق في السياق أو المعنى الحقيقي.
الفيسبوك، وتويتر، الواتس، وغيرها من المنصات، تتيح لكل عابر مساحاتٍ للمشاركة والكتابة والتعليق وترويج الركاكة والرداءة أحيانا، بل وتمنح من أراد ما أراد حتى لو كان ذلك في إطار التمييع والتسطيح والتفاهة على حساب الكنوز الأدبية والمعرفية والتراث الفلسفي والديني عموما.
ما يميز هذه الاقتباسات هو أنها تُعرض بشكل مختصر، قد تأتي في ظرف أنت بحاجة للتعبير عنه وتنسجم مع حالتك النفسية أو واقعك المعيشي فتقودك لأخذها ونشرها، خاصة إذا كان الاقتباس منشورا على صفحة مشهورة ومنسوبا إلى شخصية مرموقة، حيث يُعتقد أنه يحمل قيمة أكبر ويعزز الشعور بالاطمئنان لدى المتلقي بأنها "حقيقة"، ويؤدي إلى التقبل السريع وعدم فحص الأفكار والبحث عن حقيقتها، بل وتصبح هذه الثقافة مجرد شعارات فارغة، تُستخدم لأغراض مختلفة دون استحضار معانيها الأصلية.
ومن خلال هذه الاقتباسات المليئة بالالتباسات والمغالطة يتم الإساءة إلى من نُسبت إليهم وخاصة إذا كانت ركيكة وقليلة الحمولة المعرفية، الأمر الذي قد يخلق صورة مشوهة عن أفكارهم الحقيقية، حيث يتم استهلاك تلك المقولات بشكل سطحي دون البحث في سياقها، فمثلا ، إذا تم نسب اقتباس معين إلى شخصية أدبية مشهورة مثل طه حسين أو جبران خليل جبران، رغم أنه ليس من أعمالهم، فإن ذلك يُفقد المؤلف الأصلي حقه في تقدير الفكر الأدبي الصحيح ويُشوه تاريخه الثقافي.
وأخيرا وكما مثل الانترنت أداة لانتشار هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق، يجب على المهتمين والقراء ورواد التواصل ممن يقدرون النتاج الأدبي والموروث الديني والفلسفي، تبني جهود ومسؤولية التحقق والتدقيق، والتوعية بخطورة هذه الظاهرة لحماية الثقافة من الانزلاق نحو السطحية، وهناك العديد من المواقع الموجودة على شبكة الإنترنت تقدم خدمات تحقق من صحة الاقتباسات المشهورة مثل "Snopes" و "Quote Investigator" لذا، يمكن أن يساهم الجمهور في تصحيح الأكاذيب المنتشرة من خلال هذه الأدوات.