مقالات صحفية
صعوبات التسوية السياسية في اليمن
الإثنين - 10 فبراير 2025 - الساعة 05:43 م
تُعدُّ التسوية السياسية في اليمن واحدة من أعقد التحديات التي تواجه البلاد في الوقت الراهن، إذ تأتي في سياق تاريخ طويل من الصراعات والتوترات السياسية. تعكس هذه التسوية الحاجة الماسة إلى إنهاء النزاع المستمر وتحقيق الاستقرار، بما ينعكس إيجابًا على حياة المواطنين ويسهم في إعادة بناء الدولة. ومع ذلك، يواجه اليمن عددًا من الصعوبات التي تعيق هذا المسار، أبرزها طبيعة الصراع المستمر وتجزئة السلطة. من جهة أخرى، يرافق الصراع مخاوف حقيقية بشأن فقدان المكاسب التي تم تحقيقها خلال فترة النزاع، مما يزيد من تعقيد فرص الوصول إلى اتفاق شامل.
وفي هذا السياق، يمكن إجمال أبرز صعوبات التسوية السياسية في اليمن في النقاط التالية:
1 - طبيعة الصراع:
تتسم طبيعة الصراع في اليمن بالتعقيد الكبير، حيث لا يقتصر النزاع على فصيل واحد أو حزب سياسي، بل يمتد ليشمل مجموعة من الأطراف المتعددة. هذه الأطراف تشمل الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، وجماعة الحوثيين، والحراك الجنوبي، وتنظيمات أخرى متعددة، مما يجعل من الصعب إيجاد حلول توافقية ترضي جميع هذه الأطراف المتباينة في مصالحها.
وفي هذا السياق، يمكن توضيح أبعاد طبيعة الصراع في اليمن على النحو الآتي:
أولاً: البُعد السياسي:
يظهر البُعد السياسي للصراع بوضوح في التنافس على السلطة بين القوى السياسية المتنازعة. ففي أحد الجوانب، تواجه الحكومة الشرعية تحديًا كبيرًا من جانب الحوثيين المدعومين من إيران، الذين يسيطرون على مناطق واسعة في شمال اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء. هذا التنافس على السلطة يعكس تجاذبًا سياسيًا عميقًا حول شكل الدولة ونظامها السياسي، مما يزيد من تعقيد أي محاولة للوصول إلى تسوية شاملة.
ثانيًا: البُعد الاجتماعي والقبلي:
يتأثر الصراع بشكل بالغ بالبُعد الاجتماعي والقبلي، حيث يعتبر المجتمع اليمني قبليًا إلى حد كبير، وتلعب القبائل دورًا كبيرًا في تشكيل المشهد السياسي والعسكري في البلاد. العديد من القبائل تمتلك تأثيرًا قويًا على مختلف المناطق، وغالبًا ما تتخذ مواقف متباينة بناءً على مصالحها الخاصة. هذا التعدد في الولاءات القبلية يزيد من صعوبة التوصل إلى تسوية موحدة، حيث يصعب إيجاد حلول ترضي جميع الأطراف التي تمثل هذه القبائل والمناطق المختلفة.
ثالثًا: البُعد الإقليمي والدولي:
إضافة إلى البُعدين السياسي والاجتماعي، يدخل في الصراع اليمني البُعد الإقليمي والدولي بشكل بارز. فقد تحولت الحرب في اليمن إلى ساحة لتدخلات إقليمية ودولية، حيث يدعم التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية الحكومة الشرعية، بينما تقدم إيران دعمًا عسكريًا وسياسيًا لجماعة الحوثيين. هذا التدخل الإقليمي يطيل أمد النزاع ويزيد من تعقيد فرص التسوية السياسية، إذ تصبح أي محاولة لحل النزاع مرتبطة بتوافقات إقليمية ودولية قد تكون صعبة التحقيق، خاصة في ظل تعدد اللاعبين الدوليين والمصالح المتباينة.
رابعًا: غياب الرؤية المشتركة حول التسوية السياسية:
بالإضافة إلى ذلك، يُلاحظ غياب رؤية مشتركة بين الأطراف المتنازعة حول مفهوم التسوية السياسية. فالحكومة الشرعية ترى أن إنهاء الانقلاب واستعادة مؤسسات الدولة يعدان الركيزة الأساسية للسلام في البلاد، بينما يرى الحوثيون أن الحل يكمن في تشكيل حكومة توافقية تضمهم دون إقصاء. أما في الجنوب، فقد ظهرت مطالب انفصالية تدعو إلى إعادة دولة الجنوب السابقة، وهو ما يزيد من تعقيد أي تسوية سياسية شاملة.
وفي هذا الإطار، "لن يكون من السهل التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية، لصعوبة التوافق بين الأجندات المتعارضة، وإيجاد قواسم مشتركة فيما بينها" (المودع، 2016، 3).
وفي ذات السياق، فإن "الأزمة اليمنية تحولت بكل مكوناتها وأبعادها المختلفة إلى شأن إقليمي ودولي أكثر منها محليًا وداخليًا، فقد صارت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالوضع العام السائد في المنطقة، ارتباطًا عضويًا، أمنيًا، سياسيًا، عسكريًا واقتصاديًا" (العماري، 2019، 10).
خامسًا: الصراع العسكري المستمر:
لا يقتصر الصراع في اليمن على البُعدين السياسي والاجتماعي فحسب، بل هو أيضًا صراع عسكري طويل الأمد. فالنزاع لا يزال مستمرًا في العديد من المناطق، مما يجعل من الصعب تصور سلام دائم في ظل هذا العنف المستمر. إن الطبيعة العسكرية للأزمة تعني أن كل طرف يواصل تعزيز مواقعه العسكرية بدلًا من الانخراط في مفاوضات جادة. وهذا يزيد من صعوبة التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية، حيث لا يزال الصراع يشهد تصعيدًا مستمرًا، مما يعقد أي جهود للتوصل إلى حل شامل.
مما تقدم، يتضح أن الطبيعة المعقدة للصراع في اليمن تفرض تحديات كبيرة على أي حل سياسي. إذ يتطلب الوصول إلى تسوية شاملة قدرة فائقة على التفاوض من جميع الأطراف المعنية، بالإضافة إلى تقديم تنازلات مؤلمة، وهو ما لا يبدو سهلًا في ظل تباين المصالح وتعدد اللاعبين على الساحة. ومن ثم، فإن تحقيق تسوية سياسية شاملة يتطلب تغييرات جوهرية في تكوين الصراع وطريقة معالجته، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.
2 - تجزئة السلطة وتعدد مراكز القوى:
تعاني اليمن من تجزئة السلطة، مما أدى إلى ظهور مراكز متعددة للقوى تتنافس فيما بينها على النفوذ. هذه الظاهرة تعيق عملية اتخاذ القرار وتؤثر سلبًا على استقرار البلاد، لأن كل مركز قوة يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة بعيدًا عن المصلحة الوطنية. وفي هذا الإطار، يلاحظ أن "جميع الأطراف المحلية في اليمن مرتبطة بدرجة أو بأخرى بأطراف خارجية، وهي متنازعة فيما بينها، وبعيدة عن التوحيد، حيث تغيب المصلحة الوطنية الجامعة، وبالتالي تستمر وتتعزز حالة الانقسام، ويستمر غياب تشكيل يمني وطني موحد. ويتزامن ذلك مع عدم وجود رضا وإجماع إقليمي ودولي كافي حول أي طرف من الأطراف المحلية" (غريب، 2020، 44).
وفي هذا السياق يمكن توضيح صعوبة تجزئة السلطة في سياق الصراع في اليمن على النحو التالي:
أولاً: تجزئة السلطة بين مختلف الأطراف:
تتمثل تجزئة السلطة في اليمن في وجود أكثر من جهة تمتلك القدرة على اتخاذ القرارات والتحكم في أجزاء من الدولة. ففي هذه الوضعية، لا تقتصر السلطة على الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، بل تتوزع بين عدة قوى سياسية وعسكرية. ففي مناطق معينة، تسيطر جماعة الحوثيين على صنعاء والمناطق الشمالية، في حين تسيطر الحكومة الشرعية على مناطق أخرى. كما تبرز جماعات مسلحة أخرى، مثل المجلس الانتقالي ، التي تتسم بالولاء للأقاليم أو القضايا المحلية، ما يزيد من تعقيد عملية التفاوض ويجعل السلطة غير موحدة.
ثانيًا: التنافس بين مراكز القوى المختلفة:
يُظهر التعدد في مراكز القوى التنافس الشديد بين الأطراف المختلفة، حيث يسعى كل طرف للحفاظ على مصالحه الخاصة وتعزيز سلطته. فالحكومة الشرعية ترى أن استعادة الدولة ومؤسساتها جزء أساسي من تحقيق الاستقرار، بينما يرى الحوثيون أن الحفاظ على سيطرتهم على المناطق التي يسيطرون عليها هو مبدأ أساسي في أي تسوية سياسية. من جهة أخرى، يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي لتحقيق استقلال الجنوب أو إقامة دولة منفصلة، وهو ما يزيد من تعقيد التنافس على السلطة. هذا التعدد في مراكز القوى يساهم في حالة من الانسداد السياسي، حيث يصعب تحقيق اتفاق شامل مع وجود كل هذه الأطراف المتنازعة.
ثالثًا: التحديات العسكرية والاقتصادية:
لا تقتصر تجزئة السلطة على الصعيد السياسي فحسب، بل تشمل أيضًا الصعيدين العسكري والاقتصادي. فقد أصبحت العديد من المناطق تُدار من قبل قوى مسلحة مستقلة لا تتبع الحكومة الشرعية أو أي جهة أخرى بشكل مباشر. هذه القوى المسلحة لا تقتصر على الأطراف السياسية الكبيرة مثل الحوثيين أو الحكومة الشرعية، بل تشمل أيضًا مليشيات محلية وقبائل لها نفوذ كبير في بعض المناطق. هذا التشابك بين القوى العسكرية والسياسية يعزز حالة التفكك ويصعب أي جهود لتوحيد السلطة تحت مظلة واحدة.
رابعًا: تأثير تجزئة السلطة على التسوية السياسية:
من الواضح أن تجزئة السلطة وتعدد مراكز القوى يمثلان حجر عثرة أمام عملية التسوية السياسية في اليمن. إذ أن أي حل سياسي يجب أن يتعامل مع هذه الظاهرة ويضع آليات لضمان تمثيل جميع الأطراف في العملية السياسية، بما يضمن أن الجميع يشعر بالعدالة والمساواة في تحقيق التوازن داخل السلطة. جميع هذه العوامل تساهم في تجزئة السلطة وتعدد مراكز القوى، ما يعقد بشكل كبير إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية فعالة. فإيجاد توافق بين هذه المراكز المختلفة يستلزم تقديم تنازلات مؤلمة من جميع الأطراف، وهو ما يبدو صعبًا في ظل تعدد الأجندات السياسية والمصالح المتناقضة.
خامسًا: صعوبة التنفيذ الفعلي لأي اتفاق:
علاوة على ذلك، فإن استمرار تجزئة السلطة في اليمن يعني أن أي اتفاق سياسي قد لا يكون له فعالية حقيقية على الأرض، حيث ستظل القوى العسكرية والسياسية التي تسيطر على المناطق المختلفة قائمة. وبالتالي، فإن تجزئة السلطة وتعدد مراكز القوى تمثل واحدة من أبرز العوائق أمام التسوية السياسية الناجحة في اليمن، حيث أن الحلول يجب أن تتعامل مع هذا الواقع المعقد الذي يشمل عدة أطراف وقوى متنافسة.
إجمالا، يتضح أن نجاح التسوية السياسية في اليمن يتطلب أولًا وأخيرًا تجاوز هذه المعضلة الكبرى، التي تقتضي إيجاد إطار سياسي يتفق عليه الجميع، ويضمن توزيعًا عادلًا للسلطة يعكس التنوع والتعددية في اليمن.
3 - المطالب الانفصالية في الجنوب:
المطالب الانفصالية في الجنوب تُعتبر من أبرز القضايا التي تؤثر على عملية التسوية السياسية في اليمن. بعد الوحدة اليمنية في عام 1990، ظهرت خلافات حادة بين الشمال والجنوب، خاصة بعد حرب 1994 التي أدت إلى قمع الحركات الانفصالية في الجنوب. ومع مرور الوقت، زادت المطالبات بالانفصال نتيجة للمشاكل الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها الجنوب، بالإضافة إلى الشعور بالتهميش والظلم.
من أبرز المطالب الانفصالية في الجنوب هو استعادة ما كان يُعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي كانت قائمة في الجنوب قبل الوحدة. يدعو مؤيدو هذه المطالب إلى إقامة دولة مستقلة في الجنوب، مع الحفاظ على هويتهم الثقافية والسياسية المختلفة عن الشمال. ومن جهة أخرى، لا يزال هناك تباين في الرؤى بين الفصائل الجنوبية، حيث يعارض البعض الانفصال ويدعو إلى إعادة النظر في شكل الوحدة، بينما يصر آخرون على الانفصال الكامل.
وفي هذا السياق، "تُعد الحركة الانفصالية من أكبر المشاكل التي تعقد المشهد السياسي. ويعود سبب ذلك إلى طبيعتها المعقدة، والتي تجعل مشكلتها غير قابلة للحل. فالانفصال يفتقر إلى المقومات الفعلية للتحقق، وأهمها غياب الأساس القانوني، ورفض معظم دول العالم للانفصال، وغياب الهوية الجنوبية المتماسكة" (المودع، 2016، 5).
علاوة على ذلك، تشير جميع المؤشرات إلى أن فكرة الانفصال في اليمن تفتقر إلى الأسس الحقيقية، حيث يبدو تقسيم البلاد إلى دولتين كما كان قبل عام 1990 أمرًا شبه مستحيل. فقد انتهت مؤسسات دولة الجنوب السابقة بشكل شبه كامل، ومع الوحدة برزت قوى جديدة، بينما ضعفت قوى قديمة في الشمال والجنوب، مما أدى إلى ترابط سياسي واقتصادي واجتماعي يصعب فصله مجددًا (المودع، 2012).
إضافة إلى ذلك، فإن الوضع المعقد في اليمن يجعل تقسيم الدولة أمرًا صعبًا للغاية، حيث تعكس الدعوات الانفصالية ضعف السلطة المركزية نتيجة لسيطرة الحوثيين على صنعاء. وفي حال تم هزيمتهم وتأسيس سلطة مركزية جديدة، فإن التعامل مع الانفصاليين في الجنوب سيكون أسهل سياسيًا وعسكريًا، مما يُبرز أهمية الحفاظ على وحدة اليمن كخيار وحيد لضمان الاستقرار. (المودع، 2019).
تؤثر هذه المطالب الانفصالية بشكل كبير على وحدة الدولة اليمنية. حيث يرى العديد في الجنوب أن الفيدرالية أو الانفصال هو الحل الأمثل لضمان حقوقهم وتحقيق التنمية المنشودة. من جانب آخر، يرفض العديد من القوى الشمالية فكرة الانفصال، معتبرين أن ذلك سيسبب مزيدًا من الانقسام ويهدد استقرار البلاد بشكل عام.
مما سبق، يتضح أن المطالب الانفصالية تمثل تحديًا كبيرًا في طريق التسوية السياسية، ويستلزم حلها إيجاد حلول سياسية شاملة تراعي حقوق جميع الأطراف، وتحقيق التوازن بين الوحدة والمطالب الجنوبية.
4 - ضعف مؤسسات الدولة:
يعد ضعف مؤسسات الدولة من العوامل الرئيسية التي تعوق التسوية السياسية في اليمن. فقد فقدت غالبية مؤسسات الدولة قدرتها على العمل بفعالية نتيجة الفساد والصراعات المسلحة، مما أدى إلى غياب الخدمات الأساسية وزيادة الإحباط العام بين السكان.
إن غياب المؤسسات القوية والفعالة يجعل من الصعب إدارة شؤون الدولة بشكل سليم، ويسهم في تفشي الفساد وعدم القدرة على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين. كما أن ضعف مؤسسات الدولة يعوق عملية بناء الثقة بين مختلف الأطراف السياسية، مما يزيد من صعوبة إيجاد حلول دائمة للصراعات القائمة.
على سبيل المثال، تفتقر المؤسسات الحكومية في اليمن، بما في ذلك الجيش، والشرطة، والسلطات القضائية، إلى الاستقلالية والقدرة على فرض النظام بشكل كامل في جميع أنحاء البلاد. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من هذه المؤسسات تعاني من الفساد وسوء الإدارة، مما يعمق شعور المواطنين بعدم الثقة في الحكومة.
من جهة أخرى، أسهم النزاع المسلح المستمر في تدمير العديد من البنى التحتية والمؤسسات الحيوية، ما جعل من الصعب تقديم الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، وكذلك الحفاظ على الاستقرار الأمني. إن غياب التنسيق الفعّال بين مختلف مؤسسات الدولة، وزيادة الولاءات القبلية والحزبية، قد فاقم الأزمة السياسية وأدى إلى فشل العديد من محاولات التسوية.
هذا الضعف المؤسساتي يزيد من تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية في البلاد، حيث تظهر القوى المختلفة أحيانًا ولاءات متباينة تجاه المؤسسات الحكومية، ما يجعل من الصعب توحيد الصفوف وإيجاد حلول سياسية شاملة. في ضوء ذلك، يُعتبر تعزيز مؤسسات الدولة وبناء هيكل حكومي قوي وفعّال من أهم الأولويات في عملية التسوية السياسية لضمان استقرار اليمن ونجاح أي اتفاق سياسي مستقبلي.
وبناءً عليه، يُعتبر تقوية مؤسسات الدولة من الأمور الحاسمة لتحقيق تسوية سياسية شاملة ومستدامة في اليمن. يتطلب ذلك إصلاحات جوهرية تشمل تعزيز دور المؤسسات الحكومية، وتحقيق الاستقلالية والشفافية في عملها، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والحكومة، الأمر الذي يساهم في استقرار البلاد وإحلال السلام.
5 - الخوف على المكاسب التي تحققت خلال فترة النزاع:
لطالما كانت هناك مخاوف لدى الأطراف المتصارعة من أن تؤدي التسوية السياسية إلى فقدان المكاسب التي حققتها خلال فترة النزاع. تزداد هذه المخاوف بشكل خاص لدى الجماعات المسلحة التي تعتبر الاتفاقات السياسية تهديدًا لمكتسباتها العسكرية أو السياسية. لذلك، قد تعيق هذه المخاوف التوصل إلى اتفاق شامل وفعّال بين جميع الأطراف.
على سبيل المثال، تمكنت بعض الفصائل المسلحة من السيطرة على مناطق معينة أو الاستفادة من توازنات القوى المتغيرة، ويخشون أن تؤدي أي تسوية إلى تقليص نفوذهم أو فقدان السيطرة على المناطق التي يسيطرون عليها. كما أن بعض القوى السياسية قد تحقق مصالح اقتصادية من استمرار النزاع، مثل استفادتها من الموارد المحلية أو تيسير الفرص التجارية غير القانونية، مما يدفعها إلى مقاومة أي حل سياسي قد يهدد هذه المصالح.
من أبرز المكاسب التي حققها المجلس الانتقالي الجنوبي هو تشكيله لقوات عسكرية جنوبية، حيث أدرك منذ البداية أن الإرادة السياسية لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود جناح عسكري يمثل قوة ردع لتحقيق تطلعات أبناء الجنوب (مركز المعرفة للدراسات والأبحاث الإستراتيجية، 2024، 4).
"في جانب الحوثيين، تبرز الأهمية الإستراتيجية والجيوسياسية لمناطق سيطرتهم، خاصة التمسك بمدينة صنعاء، التي تُعد أحد أبرز مكاسبهم الإستراتيجية بوصفها العاصمة السياسية للبلاد، والمدينة اليمنية الأكبر مساحة، والأكثف سُكانًا"(الذهب، 2023، 8).
من جهة أخرى، يشكل الخوف من التنازلات التي قد تؤدي إلى تقاسم السلطة أو تغيير هيكل الحكومة أحد العوامل التي تؤثر في استجابة الأطراف السياسية لدعوات السلام. فالعديد من الأطراف لا ترغب في أن تقتصر مصالحها على التسويات السياسية أو تسليم السلطة، وبالتالي ترفض أي اتفاقات قد تؤثر في مكانتها أو المكاسب التي حققتها خلال فترة النزاع.
إضافة إلى ذلك، فإن الخوف على المكاسب الشخصية أو الحزبية يجعل من الصعب التوصل إلى توافق شامل بين مختلف الأطراف. فعندما يرى كل طرف أن التنازل عن بعض المكاسب قد يعني تراجعًا عن قوته أو تأثيره، يصبح التوصل إلى حلول وسطى أو تسوية سياسية حقيقية أمرًا بالغ الصعوبة.
بناءً على ذلك، يُعد تعزيز الثقة بين الأطراف المتنازعة وضمان حماية المكاسب المشروعة لكل طرف من العوامل الأساسية التي تساعد على تسوية النزاع. يجب أن تتضمن أي تسوية سياسية ترتيبات تضمن عدم إلغاء المكاسب السياسية أو الاقتصادية التي تحققت بشكل قانوني، مع السعي لتحقيق العدالة والمساواة بين جميع الأطراف.
6- الحل السياسي:
على الرغم من الجهود الدولية والمحلية الرامية إلى التوصل إلى تسوية سياسية شاملة في اليمن، فإن الحلول السياسية المطروحة غالبًا ما تواجه مقاومة شديدة من الأطراف المتصارعة. فكل طرف يرى في الحلول المقترحة تهديدًا لمصالحه أو تنازلًا عن أهدافه. كما أن التحديات الأمنية والإنسانية المستمرة تحول دون توفير بيئة مواتية لإنجاز اتفاقيات قابلة للتنفيذ على الأرض.
وفي هذا السياق، يواجه الحل السياسي في اليمن العديد من الصعوبات التي تعيق التوصل إلى تسوية شاملة ومستدامة. من أبرز هذه الصعوبات تلك المتعلقة بتشكيل حكومة وحدة وطنية وتوسيع مجلس القيادة الرئاسي.
1- صعوبة تشكيل حكومة وحدة وطنية:
تعد فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية في اليمن واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الحل السياسي. يعود ذلك إلى تباين المصالح بين الأطراف السياسية المختلفة، سواء كانت الحكومة المعترف بها دوليًا أو الفصائل المسلحة مثل الحوثيين أو المجلس الانتقالي الجنوبي. يسعى كل طرف للحفاظ على مصالحه السياسية والعسكرية، ويخشى من تقليص نفوذه أو التنازل عن بعض المكاسب التي حققها خلال النزاع.
كما أن التوترات بين الأطراف المختلفة، مثل الانقسامات الجغرافية والسياسية داخل البلاد، تجعل من الصعب بناء حكومة شاملة تضم جميع الأطراف. علاوة على ذلك، فإن غياب الثقة المتبادلة بين تلك الأطراف يعقد مسألة التفاوض حول تشكيل حكومة توافقية. حيث يُنظر إلى أي تنازل من أحد الأطراف على أنه ضعف قد ينعكس سلبًا على مكانته السياسية.
2- صعوبة توسيع مجلس القيادة الرئاسي:
توسيع مجلس القيادة الرئاسي يعد من العوامل الصعبة أيضًا في عملية الحل السياسي. يتكون المجلس حاليًا من مجموعة محدودة من الأعضاء، ويرتكز على توازنات سياسية تتعلق بمصالح القوى الكبرى. ويتطلب توسيع هذا المجلس ليشمل أطرافًا أخرى، مثل الحوثيين أو المجموعات الأخرى، توافقًا معقدًا بين الأطراف المختلفة، ما يعكس تحديات في توزيع السلطة بشكل عادل.
إضافة إلى ذلك، يخشى بعض الأعضاء الحاليين في المجلس من فقدان السلطة أو التأثير إذا تم توسيع نطاق التمثيل، مما يجعل عملية التوسع أمرًا صعبًا. فكل طرف يسعى إلى ضمان تمثيله بما يضمن له الوصول إلى قرار سياسي مؤثر، ما يؤدي إلى تعثر التفاوض على تشكيل مجلس قيادة رئاسي موسع.
بناءً على ما سبق، فإن التحديات المرتبطة بتشكيل حكومة وحدة وطنية وتوسيع مجلس القيادة الرئاسي تعكس صعوبة التوصل إلى حل سياسي شامل في اليمن. هذا الحل يتطلب تعزيز الثقة بين الأطراف المتنازعة، والعمل على إيجاد آليات سياسية من شأنها تلبية مصالح الجميع وضمان استقرار الدولة.
من جهة أخرى، يُعقِّد التدخل الإقليمي والدولي الموقف، حيث تساهم التدخلات الخارجية في زيادة التعقيدات السياسية وتعقيد عملية التفاوض. تلعب الدول الإقليمية دورًا كبيرًا في دعم بعض الأطراف اليمنية، مما يزيد من صعوبة إيجاد أرضية مشتركة بين الأطراف الداخلية.
أضف إلى ذلك، أن الحل السياسي في اليمن يحتاج إلى معالجة القضايا الأساسية المتعلقة بالعدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية، وتوزيع الموارد، وهي أمور تتطلب وقتًا طويلاً وتعاونًا مستمرًا من جميع الأطراف المعنية. إلا أن استمرار النزاع والتهديدات الأمنية يجعل الحلول السياسية المؤقتة أكثر قبولًا من الحلول الشاملة، مما يزيد من تعقيد جهود الوصول إلى تسوية نهائية.
إذن، يمكن القول إن الحل السياسي في اليمن يعتمد على قدرة الأطراف على التغلب على انقساماتها الداخلية والمصالح المتضاربة، والاتفاق على ترتيب سياسي يحقق استقرارًا طويل الأمد للبلاد.
7 - عودة التصعيد:
من الصعوبات الأخرى التي تواجه التسوية السياسية في اليمن هي عودة التصعيد العسكري بين الحين والآخر، مما يؤدي إلى تعطيل العملية السياسية وتهديد استقرار أي اتفاق يتم التوصل إليه. فعلى الرغم من توقيع بعض الهدن أو الاتفاقات السياسية، فإن اندلاع القتال مرة أخرى يثير شكوكًا حول قدرة الأطراف المتنازعة على التوصل إلى حلول دائمة.
يحدث التصعيد غالبًا نتيجة لعدة عوامل، من بينها فشل محاولات التهدئة أو انسحاب بعض الأطراف من التزاماتها الخاصة بوقف إطلاق النار. كما أن الخلافات المستمرة بين القوى السياسية والعسكرية تساهم في تجدد الأعمال القتالية، حيث يسعى كل طرف إلى تحقيق مكاسب على الأرض، مما يعوق أي عملية سلمية. في كثير من الأحيان، يؤدي التصعيد إلى تعقيد الوضع الإنساني وزيادة المعاناة لدى المدنيين، مما يجعل التوصل إلى تسوية مستدامة أمرًا بالغ الصعوبة. أيضًا، يخلق التصعيد العسكري بيئة من عدم الثقة بين الأطراف المتنازعة، حيث يشكك كل طرف في نوايا الآخر. فمثلاً، عندما يحقق أحد الأطراف تقدمًا على الأرض، قد يراه الطرف الآخر بمثابة تهديد لمكاسبه العسكرية والسياسية، مما يرفع من حدة التوترات ويعزز من رغبتهم في التصعيد.
بناءً على ذلك، فإن عودة التصعيد تشكل عقبة رئيسية أمام أي حل سياسي في اليمن. ولذا، من الضروري العمل على آليات فعالة لوقف التصعيد، سواء من خلال الضغط الدولي على الأطراف المتنازعة أو من خلال فرض عقوبات على من يخالفون اتفاقات وقف إطلاق النار. إذا لم يتم السيطرة على التصعيد، سيكون من الصعب تحقيق تسوية سياسية قابلة للتنفيذ على الأرض.
إجمالًا، يشكل التصعيد أحد أبرز العوامل التي تؤثر في سير عملية التسوية السياسية في اليمن. إن استمرار الأعمال القتالية، وزيادة التوترات بين الأطراف، والظروف الأمنية المعقدة تجعل التوصل إلى تسوية سياسية شاملة أمرًا صعبًا للغاية. لذلك، يجب أن تركز الجهود على وقف التصعيد وبناء بيئة من الثقة والهدوء، بحيث يمكن للأطراف المعنية التفاوض بجدية من أجل إيجاد حلول مستدامة.
ختامًا، يتضح أن الصعوبات التي تواجه التسوية السياسية في اليمن تتنوع وتتداخل بشكل معقد. فهناك تداخل بين طبيعة الصراع متعددة الأبعاد وضعف مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى المطالب الانفصالية في الجنوب والخوف من فقدان المكاسب المكتسبة خلال النزاع. كما أن قضايا الحلول السياسية وعودة التصعيد تمثل تحديات إضافية. كل هذه العوامل تجعل عملية التسوية السياسية في اليمن أشبه بمهمة شاقة. ومع ذلك، تبقى الحاجة إلى تسوية شاملة وعادلة أولوية، من أجل تحقيق الاستقرار والازدهار للشعب اليمني بعد سنوات من الدمار.
قائمةالمراجع :
اولا : الرسائل العلمية:
١ - غريب، سلطان علي حسن. الأزمة اليمنية (2011-2020)؛ دراسة تحليلية لأسبابها وطرائق إداراتها ومساراتها المستقبلية. رسالة ماجستير، قسم العلوم السياسية، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشرق الأوسط، تشرين الأول 2020.
ثانيا : الدراسات:
١ - الذهب ، علي." التنافس على مكاسب الحرب في اليمن: ارتدادات تقوِّض عملية السلام والأمن الإقليمي"، مركز الجزيرة للدراسات، 19 سبتمبر 2023، http://studies.aljazeera.net
٢- العماري، سلمان، " واقع الصراع ومآلات الحَرب الجِيُوسياسِيّة في اليَمن، رؤيا للبحوث والدراسات، 26 مارس، 2019 ، https://ruyaa.cc
ثالثا: المواقع الإلكترونية:
١ - المودع، عبدالناصر. "التسوية السياسية في اليمن: المعوِّقات والآفاق." Al Jazeera Centre for Studies, أيار 2016. http://studies.aljazeera.net/reports/2016/05.
١- المودع ، عبدالناصر. "صعوبات الانفصال القانوني أو الفعلي في جنوب اليمن" ، الشرق الأوسط "،26 أغسطس 2019، https://aawsat.com
٢- المودع ، عبدالناصر. "غياب الدعم الخارجي للانفصال يجعله غير ممكن" ، مأرب برس ،04 أغسطس-آب 2012، https://marebpress.net/articles.php?id=16774
٣- مركز المعرفة للدراسات والأبحاث الإستراتيجية. "المجلس الانتقالي الجنوبي من الثورة إلى الدولة (قراءة في إدارة الانتقالي للمرحلة الانتقالية تقييم حالة)."June 2, 2024، https://
www.almarfacenter.org.