تحليل دور النخبة في مواجهة التخلف والتحول إلى أداة للسلطة

الخميس - 09 يناير 2025 - الساعة 02:15 ص

الكاتب: د. عبدالقادر لطف الخلي - ارشيف الكاتب

منذ أوائل القرن التاسع عشر، لعبت النخبة الفكرية في العالم العربي دورًا محوريًا في محاربة التخلف الاجتماعي والثقافي والسياسي. تشكلت هذه النخبة من مفكرين وأدباء وصحفيين أدركوا أن الطريق نحو النهضة طويل، لكنه يستحق الجهد لتحقيقه. كان الهدف الرئيسي لهؤلاء المفكرين هو البحث عن كيفية تحقيق التوازن بين الانفتاح على الحداثة الغربية والتمسك بالقيم الدينية الإسلامية. ومع ذلك، مر هذا الدور بتحولات جوهرية، خاصة منذ خمسينيات القرن العشرين، حيث بدأت النخبة تتكيف تدريجيًا مع توجهات السلطة، مما أدى إلى انحراف دورها الأساسي.

النخبة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين: النهوض والتحدي

في بداية النهضة العربية، برزت أسماء لامعة مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد عبده، الذين سعوا إلى بناء رؤية تجمع بين الحداثة والهوية الإسلامية. ركز هؤلاء المفكرون على التعليم، الإصلاح الديني، ونقل العلوم الغربية كوسيلة للتقدم. على سبيل المثال، دعا الطهطاوي إلى التعلم من الغرب مع الحفاظ على القيم الشرقية، في حين نادى خير الدين التونسي بمزج الشورى الإسلامية بالديمقراطية الحديثة.
في هذه الفترة، لم تكن المعركة ضد التخلف فقط؛ بل كانت معركة تحرر فكري من قيود الجهل والجمود، والتحرر السياسي من الاستعمار الغربي. كان القوميّون مثل ساطع الحصري وعبدالرحمن الكواكبي، إلى جانب مفكرين ليبراليين مثل فرح أنطون وعلي عبدالرازق، يعملون على تشكيل وعي جماعي يدفع باتجاه الاستقلال وبناء مجتمعات قوية ومتحررة.
دور النخبة في مواجهة الاستعمار:
لعبت النخبة دورًا كبيرًا في مواجهة الاستعمار الغربي من خلال الدعوة إلى التحرر والاستقلال. كان الخطاب الثقافي والفكري في ذلك الوقت مشبعًا بروح المقاومة، حيث أدرك المفكرون أن التحرر من الاستعمار يتطلب تحريرًا فكريًا ومجتمعيًا متزامنًا.
التحول في الخمسينيات:
مع صعود الدول الوطنية في العالم العربي بعد الاستقلال، بدأت النخبة تواجه تحديات جديدة. أدركت هذه النخبة تدريجيًا أن دورها لم يعد محصورًا في مقاومة التخلف، بل بات عليها التكيف مع توجهات السلطة الحاكمة. أدى ذلك إلى تغير في طبيعة دورها من قوة نقدية مستقلة إلى أداة تخدم مصالح الأنظمة.
في الخمسينيات، خاصة مع صعود الأنظمة القومية والاشتراكية، حاولت السلطات استقطاب المثقفين لتأييد سياساتها. تم تسخير الخطاب الثقافي لخدمة الأيديولوجيات الحاكمة، وأصبحت النخبة رهينة للمصالح السياسية. ومع مرور الوقت، فقدت هذه النخبة قدرتها على لعب دورها التنويري والنقدي.
أسباب تحول النخبة إلى أداة للسلطة:
1. هيمنة السلطة السياسية: في الأنظمة الشمولية، سعت السلطات إلى السيطرة على النخبة المثقفة لضمان استمرارية خطابها الموجه.
2. التضييق على الحريات: مع تقييد حرية التعبير، أصبحت النخبة مضطرة للتكيف مع توجهات السلطة لتجنب القمع.
3. الإغراءات المادية والمعنوية: جذبت السلطات بعض المثقفين من خلال المناصب والامتيازات، مما أدى إلى فقدانهم لاستقلاليتهم الفكرية.
التبعات:
1. غياب النقد البنّاء: أدى تحول النخبة إلى أداة للسلطة إلى ضعف النقد الفكري والمجتمعي، مما أسهم في استمرار الأزمات.

2. تراجع الدور التنويري: افتقدت المجتمعات العربية مصدرًا هامًا للإصلاح والتغيير.
3. استمرار التخلف: في غياب النخبة المستقلة، استمر التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وازداد الجمود الثقافي.
الخاتمة:
لقد لعبت النخبة العربية دورًا تاريخيًا في مقاومة التخلف والاستعمار، لكنها فقدت بوصلتها تدريجيًا مع صعود الأنظمة القمعية وتداخل المصالح. ما يحتاجه العالم العربي اليوم هو نخبة جديدة تعيد صياغة دورها كقوة نقدية مستقلة تعمل على تحقيق النهضة الفكرية والاجتماعية بعيدًا عن هيمنة السلطة. تحرير النخبة من قيودها الحالية هو الخطوة الأولى نحو بناء مستقبل أكثر إشراقًا.