مقالات صحفية
مداخل التسوية السياسية في اليمن
السبت - 18 يناير 2025 - الساعة 12:17 ص
تتصارع اليمن، منذ سنوات، مع أزمة سياسية واقتصادية وإنسانية معقدة، ألقت بظلالها القاتمة على مختلف جوانب الحياة، وأدت إلى تفاقم الانقسامات الداخلية وتدهور الأوضاع المعيشية. في خضم هذه الظروف الصعبة، تبرز الحاجة الماسة إلى إيجاد حلول جذرية وشاملة، قوامها تسوية سياسية مستدامة تنهي هذا الصراع المرير، وتؤسس لمستقبل آمن ومزدهر. ولتحقيق هذه الغاية، لا بد من تبني مقاربة متعددة الأبعاد، تأخذ في الاعتبار كافة العوامل المؤثرة في الصراع اليمني، وتستند إلى فهم عميق لمعطيات الواقع وتوازنات القوى، وتراعي حقوق جميع الأطراف، وتضمن مشاركتهم الفعالة في صنع القرار.
وفي هذا السياق، يمكن إيجاز أهم مداخل التسوية السياسية في اليمن، مع التركيز على الجوانب الأساسية التي يجب معالجتها لبناء سلام حقيقي ودائم في هذا البلد المنكوب.
١ ) إعادة تعريف الصراع:
تعد إعادة تعريف الصراع حجر الزاوية في أي مسعى للتسوية السياسية في اليمن، إذ يتطلب ذلك فهما عميقًا لجذوره وتحديد الأطراف المختلفة المشاركة فيه. فعلى الرغم من أن النزاع في اليمن قد يبدو صراعًا عسكريًا بين قوات متناحرة، إلا أن جذوره أعمق وأشمل، وتعود إلى عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية قديمة ومعقدة.
غالبا ما تقدم، وسائل الإعلام صورةً مُبسّطةً للصراع في اليمن، مُركّزةً على مواجهة بين القوات الشرعية والحوثيين. لكن الواقع أكثر تعقيدًا، فهو يتضمن قوى متعددة ذات أجندات متنوعة، خاصة بين أطراف معارضة للحوثيين (المودع، 2016، 3).
"فالصراع في اليمن لا يعتبر نزاعًا داخليًا مستقلًا عن تأثيرات القوى الإقليمية والدولية، ففي صراع محاور تتداخل فيه مصالح إقليمية ودولية، ومن جهة أخرى نزاع ذو بعد طائفي يغذي اتجاهات اجتماعية وثقافية وأهداف سياسية وأيديولوجية" (عمر، 2021، 97).
وفي ذات السياق، فإن إعادة تعريف الصراع تصبح ممكنة من خلال تحديد المصالح الحقيقية للأطراف المتنازعة ومعرفة الأسباب التي أدت إلى تصعيد النزاع. كما أن هذه الخطوة تتيح للطرفين فهم المدى الكامل للآثار السلبية التي نتجت عن الصراع على الشعب اليمني.
إن إعادة تعريف الصراع لا تعني فقط تصنيف أطرافه أو تحديد هوية المتنازعين، بل تشمل أيضًا فهم التداخلات الداخلية والخارجية التي أسهمت في تطور الأزمة. فالصراع في اليمن ليس مجرد نزاع بين أطراف سياسية أو عسكرية، بل هو مزيج من عوامل متعددة تشمل الانقسام الاجتماعي، التحديات الاقتصادية، التدخلات الإقليمية، وفشل المؤسسات الوطنية.
"وفقا للقانون الدولي، والمعبر عنه في قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة باليمن، ومواقف دول العالم؛ فإن الحرب في اليمن هي حرب داخلية أهلية تتم بين قوات تتبع الحكومة الشرعية التي يعترف بها العالم، وقوات الحوثيين التي يعتبرها العالم قوة انقلابية غير شرعية" (المودع، 2018).
"أما من الناحية الفعلية، فإن الحرب تحمل الكثير من خصائص وصفات الحروب الدولية؛ فالأطراف الرئيسية المتحكمة بمسار الحرب هي دول خارجية، وتحديدًا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، واللتان تمولان وتديران الأطراف التي تقاتل الحوثيين بشكل شبه كامل تقريبًا" (المصدر السابق، 2018).
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إنه منذ عام 2014، عقب اندلاع النزاع المسلح بين الحكومة المعترف بها دوليًا وجماعة الحوثيين، تطور هذا الصراع إلى صراع إقليمي عبر حرب بالوكالة، ثم تحول إلى صراع دولي تصاعدت حدته مع اشتداد الأوضاع في المنطقة. وقد أدى هذا الصراع إلى تفاقم الأزمات الإنسانية والسياسية والاقتصادية في البلاد، مما جعل عملية التسوية السياسية أحد أبرز الأهداف التي يسعى المجتمع الدولي لتحقيقها.
كما يتطلب إعادة تعريف الصراع أيضًا إعادة النظر في مفهوم "العدو"، والتأكد من أن جميع الأطراف تدرك أن الخروج من الأزمة لا يتم إلا من خلال التفاهم والشراكة، وليس من خلال العنف والدمار. وبالتالي، فإن هذه الخطوة تمهد الطريق لبدء محادثات جدية نحو التسوية السياسية، حيث يُنظَر إلى كل طرف على أنه شريك محتمل في عملية بناء المستقبل بدلاً من كونه خصمًا دائمًا.
عطفًا على ما سبق، فإن إعادة تعريف الصراع هي عملية ضرورية لفهم أبعاد الصراع في اليمن بشكل شامل، وهي تمثل خطوة أولى نحو إيجاد حلول سياسية تراعي التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مع التركيز على ضرورة الحوار والشراكة بين جميع الأطراف.
2 ) المقدمة:
يشكل مدخل " المقدّمة " في عملية التسوية السياسية في اليمن مرحلة تحضيرية حاسمة، فهي ، بمثابة البوابة التي تمهد الطريق نحو حلول سلمية من خلال بناء الثقة بين الأطراف المتخاصمة، وتخفيف حدة التوتر، وتهيئة الأجواء المناسبة للحوار والنقاش. يتمثل ذلك في مجموعة من الإجراءات التي تساهم في بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة وتخفيف التوتر، وتشمل:
1- وقف إطلاق النار:
يمثل وقف إطلاق النار أحد أبرز الخطوات الأولية والأساسية في أي تسوية سياسية، خصوصًا في سياق الصراعات المسلحة مثل الصراع اليمني. يهدف هذا الإجراء إلى إيقاف الأعمال العسكرية والقتال بين الأطراف المتنازعة، حيث يساهم في تقليل الخسائر البشرية والمادية، ويهيئ الأجواء لاستئناف المفاوضات. من خلال هذه الخطوة، يمكن للأطراف المتنازعة أن تركز على التفاوض بدلًا من القتال المستمر.
يسهم وقف إطلاق النار في تقليل الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن القصف والهجمات العسكرية، كما يتيح للطرفين المتنازعين الفرصة للتركيز على الحوار والتفاوض بدلاً من المواجهات الدامية. وتعد هذه الخطوة حجر الزاوية في تهيئه بيئة مواتية لاستئناف المفاوضات السياسية، مما يزيد من فرص التوصل إلى حلول سلمية مستدامة، كما تساهم في إنشاء جو من الثقة بين الأطراف المتنازعة، مما يسهل التوصل إلى اتفاقات أخرى بشأن الملفات الحساسة، مثل تبادل الأسرى، ورفع القيود الاقتصادية، أو حل القضايا الأساسية الأخرى التي تمثل جوهر الصراع.
علاوة على ذلك، يعد وقف إطلاق النار مؤشرًا على رغبة الأطراف في الوصول إلى حلول سلمية، ويُعتبر التزامًا محليًا وإقليميًا ودوليًا لتحقيق السلام.
ومع ذلك، فإن وقف إطلاق النار لا يكون مفيدًا إلا إذا تم الالتزام به من جميع الأطراف. ويستلزم ذلك إشرافًا فعالا لضمان التزام جميع الأطراف ببنود وقف إطلاق النار، من خلال مراقبين دوليين أو بعثات تابعة للأمم المتحدة. مع تحديد آليات للمساءلة في حال حدوث أي خرق.
٢ - وقف التصعيد وخفض التوتر:
يعدُّ وقف التصعيد وخفض التوتر من الخطوات الأساسية في مدخل التسوية السياسية، خاصة في الصراعات مثل الصراع في اليمن. يهدف هذا الإجراء إلى تقليل الأضرار الاقتصادية والعسكرية والحد من الهجمات، مما يساعد في تخفيف الأجواء المتوترة وفتح قنوات الحوار بين الأطراف المتنازعة. يعزز هذا الإجراء الثقة بين الأطراف ويسهم في تحسين الوضع الإنساني في المناطق المتضررة. كما يُعدُّ خطوة ضرورية نحو إيجاد بيئة ملائمة للمفاوضات السياسية، مما يزيد من فرص التوصل إلى حلول سلمية.
٣ - إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين:
إنَّ إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين يُعدُّ من الإجراءات الإنسانية الضرورية في أي عملية تسوية سياسية، خاصة في سياق الصراع اليمني. يهدف هذا الإجراء إلى إعادة حقوق الأفراد المعتقلين وتعزيز الثقة بين الأطراف المتنازعة. من خلال إطلاق سراح الأسرى، يتم التخفيف من معاناة الأسر والعائلات، مما يسهم في تحسين الوضع الإنساني في المناطق المتضررة من النزاع.
وفي ذات السياق، فإنَّ الإفراج عن الأسرى والمعتقلين يعكس رغبة الأطراف في تحقيق السلام ويُعطي إشارات إيجابية بأن الحلول السلمية ممكنة. كما يساهم في تحسين الوضع الإنساني، ويساعد على إعادة لم شمل الأسر المتضررة من الحرب.
ومن ثم، يُعدُّ إطلاق سراح الأسرى أيضًا جزءًا من الحلول الشاملة التي تشمل إعادة بناء العلاقات بين الأطراف المتنازعة، ويشكل خطوة مهمة نحو إرساء الأسس التي تُمكِّن من التوصل إلى اتفاقات أخرى تتعلق بالملفات الحساسة.
٤ - رفع القيود على المطارات والموانئ اليمنية:
يشكل رفع القيود على المطارات والموانئ اليمنية أحد أهم الخطوات في مقدمة التسوية السياسية اليمنية. يهدف هذا الإجراء إلى تسهيل حركة البضائع والمساعدات الإنسانية إلى اليمن، مما يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي والإنساني في البلاد. كما يساعد في إعادة تشغيل الاقتصاد الوطني الذي تأثر بشكل كبير نتيجة النزاع المستمر.
من خلال رفع القيود، يمكن للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية تقديم المساعدات بشكل أسرع وأكثر فعالية، مما يسهم في تقليل معاناة المدنيين. كما أن هذه الخطوة تساهم في تعزيز الثقة بين الأطراف المتنازعة، إذ تُظهر استعداد الأطراف لتحقيق السلام واستعادة الأمن والاستقرار في البلاد.
علاوة على ذلك، فإن رفع القيود على الموانئ والمطارات يسهل عملية التواصل بين اليمن ودول العالم، مما يساعد في تسريع عملية إعادة الإعمار ويعزز فرص تحسين الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد.
وفي ضوء ما سبق، فإن هذه الإجراءات التي تشكّل جوهر مدخل"المقدّمة" ليست أهدافًا بحد ذاتها، بل هي خطواتٌ ضروريةٌ لتهيئة الأرضية الخصبة للبدء بمفاوضات جادة نحو التسوية السياسية الشاملة والمستدامة في اليمن.
3 ) السفينة الواحدة :
يمثل مفهوم "السفينة الواحدة" من المداخل الهامة في التسوية السياسية في اليمن، ويعني ضرورة أن يسعى جميع الأطراف المتنازعة إلى التوحد والعمل معًا في إطار واحد لتحقيق السلام والاستقرار في البلاد. يشير هذا المدخل إلى أنه لا يمكن لأي طرف أن يحقق مصالحه على حساب الأطراف الأخرى، بل يجب أن يكون الجميع على متن "سفينة" واحدة، تتجه نحو هدف مشترك يتمثل في الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تنهي الصراع وتحقق السلام المستدام.
وفي هذا السياق، يعكس هذا المدخل أهمية التفاهم والتعاون بين مختلف الأطراف في اليمن، سواء كانت الحكومة الشرعية، أو الحوثيين، أو المجلس الانتقالي الجنوبي أو غيرهم من الأطراف المحلية والإقليمية. كما يُبرز ضرورة التضحية من أجل المصلحة الوطنية العليا، وتقديم التنازلات المتبادلة لضمان التوصل إلى حل شامل يعالج جميع القضايا العالقة.
بالتالي، فإن مدخل "السفينة الواحدة" يعزز من فكرة أن السلام ليس هدفًا يخص طرفًا واحدًا، بل هو مسار يجب أن يشارك فيه الجميع لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في اليمن.
٤) معطيات الواقع:
تُشكّل معطيات الواقع اليمنيّ الحاليّ مدخلًا أساسيًا لأي تسوية سياسية ناجحة. فهذه المعطيات، التي تتضمن توازنات القوى على الأرض، والانقسامات الاجتماعية والسياسية العميقة، والأزمة الإنسانية المُلحة، والوضع الاقتصادي المتردّي، لا يمكن تجاهلها أو إغفالها في أي مفاوضات أو اتفاقيات. فأي تسوية سياسية لا تراعي هذه المعطيات بشكل واقعي ستكون مُعرّضة للفشل. لذا، يجب أن تُبنى أي خطة للتسوية على أساس من الفهم العميق والدقيق لواقع الأرض والتحديات المُعقّدة التي تواجه اليمن، مع مراعاة جميع الأطراف والمصالح المتضاربة. يُمثّل هذا الفهم الواقعي نقطة انطلاق أساسية لأي محاولة للتسوية، حيث يُساعد في وضع استراتيجيات مناسبة وملائمة للسياق، ويُحدّد الأولويات، ويساهم في بناء الثقة بين الأطراف المختلفة. فالتعامل مع المعطيات الواقعية لا يعني الاستسلام للقوى السياسية أو الاجتماعية المسيطرة، بل هو ضرورة لإيجاد حلول مستدامة وفعّالة. يُمثّل التعامل مع هذه المعطيات بصراحة ونزاهة خطوة أساسية نحو بناء مستقبل أفضل لليمن. يتطلب ذلك التعامل مع المتغيّرات الديموغرافية والجغرافية والثقافية بشكل دقيق، مع الاعتراف بالاختلافات والتناقضات الموجودة في المجتمع اليمني. ومن ثم، يمكن وضع آليات للتسوية تراعي هذه المعطيات بشكل فعّال وتساهم في بناء مستقبل سلمي ومستقر لليمن الموحد.
وبناءً على ما سبق، يتضح أن معطيات الواقع في اليمن تمثل تحديًا كبيرًا أمام أي جهود للتسوية السياسية، حيث تتداخل العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل الوضع أكثر تعقيدًا. ومع ذلك، فإن التسوية السياسية يمكن أن تنجح إذا تم أخذ جميع هذه المعطيات بعين الاعتبار، وتم توفير آليات فعّالة لإشراك جميع الأطراف في العملية السياسية، وضمان التنفيذ الفعلي للاتفاقات. إن الحلول التي يتم التوصل إليها يجب أن تكون متوافقة مع الواقع لتكون قابلة للتطبيق وتؤدي إلى استقرار دائم في اليمن.
5) ترتيب الأولويات:
تمثل عملية ترتيب الأولويات في التسوية السياسية اليمنية أحد أبرز العناصر الأساسية التي تساهم في نجاح عملية التسوية وتحقيق الاستقرار السياسي في البلاد. يتطلب ذلك تحديد القضايا الأكثر أهمية وأولوية في المرحلة الراهنة، من خلال تحديد المشكلات الأكثر إلحاحًا والتي يجب معالجتها أولاً لضمان استقرار الوضع الإنساني والاقتصادي في البلاد.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن حل الصراع في اليمن معقد للغاية، مما يجعل إيجاد حل سريع ونهائي أمرًا صعبًا. تتطلب الظروف الحالية بحثًا مستمرًا للوصول إلى مخرج مناسب يضمن الاستقرار لليمن، رغم التحديات العديدة التي تواجهها البلاد (صفا، 2018، 49).
وبناءً على ما سبق، يمكن ترتيب أولويات التسوية السياسية في اليمن على النحو التالي:
(1) استكمال استحقاقات الملف الإنساني:
يعد الملف الإنساني من أهم الأولويات في عملية التسوية السياسية، حيث ينبغي أن يتم التركيز أولاً على التخفيف من المعاناة الإنسانية الناتجة عن النزاع. يشمل ذلك الآتي:
1- إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين:
يجب إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين من الأطراف المختلفة دون استثناء، وفق مبدأ "الكل مقابل الكل"، مما يعزز الثقة بين الأطراف ويسهم في بناء بيئة من التعاون.
2- فتح الطرقات ورفع القيود عن المطارات والموانئ:
يُعد فتح الطرقات ورفع القيود عن الموانئ والمطارات أمرًا حيويًا لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين في المناطق المتضررة.
3 - معالجة ملف الشهداء والجرحى:
يجب توفير التعويضات لعائلات الشهداء والرعاية الصحية للجرحى، من خلال برامج تأهيلية ومراكز علاجية، لضمان العدالة الاجتماعية وتحقيق التعافي للمصابين.
(2) ترتيب الوضع الاقتصادي:
يعد الوضع الاقتصادي من العوامل الحاسمة التي تؤثر على استقرار البلاد. لذا، يجب وضع خطوات عملية لمعالجة التحديات الاقتصادية التي يعاني منها اليمن. وذلك من خلال الآتي:
1- استئناف تصدير النفط والغاز:
يعتبر النفط والغاز مصدرين أساسيين للعائدات المالية في اليمن، واستئناف تصديرهما سيساهم بشكل كبير في تحسين الوضع الاقتصادي. يعزز هذا الإجراء القدرة على تمويل مشاريع التنمية، ويُسهم في تأمين الإيرادات اللازمة لدعم الخدمات الأساسية.
2 - دفع رواتب موظفي القطاع العام:
يمثل دفع رواتب موظفي القطاع العام خطوة حيوية في تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين ودعم استقرار الحكومة. يتعين أن يُنفذ هذا الإجراء في وقت مبكر ضمن خطة الإصلاح الاقتصادي لضمان استعادة الثقة في المؤسسات الحكومية وتحفيز العاملين على أداء واجباتهم.
بالمقابل، "على الحوثيين تحييد العمل الإنساني عن الصراع، وأن يمتنعوا عن السياسات التي تضيق على التدخلات الإنسانية، وأن يعمدوا إلى صرف مرتبات الموظفين الحكوميين، وعدم توقيفها ومنع تسليمها" (تنبيه سياسي، 2024، 10).
وفي ذات السياق، "فالحكومة الشرعية مطالبة بترتيب مالية الدولة، والحد من الفساد، وإعادة النظر في الصرفات المبالغ فيها، والاهتمام بحاجات الشعب وضروريات عيشه" (تقدير موقف، 2021، 13).
(3) ترتيب الوضع العسكري والأمني:
يعد ترتيب الوضع العسكري والأمني حجر الزاوية في التسوية السياسية في اليمن. يتطلب هذا الترتيب معالجة القضايا العسكرية والأمنية بعناية لضمان استقرار البلاد وتهيئة الظروف المناسبة للتسوية السياسية.
وفي هذا السياق، "يجب التركيز على أن أي تسوية سياسية لا يتم البدء فيها بالجوانب الأمنية والعسكرية، لا يمكن أن تنجح، وفشل "اتفاق السلم والشراكة" الموقع عليه في عام 2014م، و"اتفاق الرياض" الموقع عليه في عام 2019، خير دليل على ذلك" (تقدير موقف، 2022، 9).
وفيما يلي المراحل الرئيسية المتعلقة بهذا الترتيب:
1 - دمج وتوحيد القوات والفصائل المسلحة:
يتعين دمج الفصائل المسلحة المختلفة في كيان واحد من خلال عملية شاملة تهدف إلى تقليص التوترات العسكرية بين الأطراف المتنازعة. يتم ذلك عبر آلية سياسية وعسكرية متوافق عليها تحت مظلة وزارة الدفاع بإشراف الأمم المتحدة، لضمان أن جميع الفصائل المسلحة تكون جزءًا من هيكل موحد يعكس التنوع السياسي والاجتماعي في اليمن.
2 - إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية:
يجب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بشكل يعزز من مهنيتها وكفاءتها. وهذا يشمل تصحيح الاختلالات القائمة، وتقديم التدريب المستمر للكوادر الأمنية على احترام حقوق الإنسان وحماية المدنيين. الهدف هو تشكيل جهاز أمني محايد وقادر على توفير الأمن والاستقرار في جميع أنحاء اليمن، بعيدًا عن أي انحيازات سياسية أو طائفية.
3 - بناء جيش وطني:
يعد بناء جيش وطني مهمًا للحفاظ على وحدة البلاد وأمنها. يجب أن يكون الجيش مؤسسة مهنية تتبع القيادة السياسية الشرعية، وتهدف إلى حماية اليمن من أي تهديدات داخلية أو خارجية. يُشترط أن يكون الجيش خاليًا من الولاءات الحزبية أو الطائفية، وأن يعكس التنوع الوطني في كافة مكوناته.
تعمل هذه المراحل الثلاث معًا لضمان إعادة الأمن والاستقرار إلى اليمن، مما يوفر بيئة مناسبة للحوار السياسي والانتقال إلى مرحلة بناء الدولة.
إجمالاً، يساهم ترتيب الأولويات في التركيز على القضايا الأكثر أهمية في الوقت الحالي، ما يسهم في تسريع عملية التسوية السياسية وضمان استدامتها.
6) السياسي - الدستوري:
يمثل المدخل "السياسي - الدستوري" أحد أهم المداخل الأساسية لعملية التسوية السياسية في اليمن، فهو يتناول القضايا الجوهرية المتعلقة بشكل الدولة ونظام الحكم ، ويشمل عدة محاور أساسية تهدف إلى تحقيق تسوية شاملة وعادلة. ويمكن ايجازها على النحو التالي:
(1) - شكل الدولة:
من المعلوم "أن الدستور هو الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، والسلطات العامة وتوزيعها وعلاقاتها، وحقوق الأفراد وواجباتهم" (الكبسي، 1999، 50).
ومن المعلوم أيضًا "أن الدستور المستفتى عليه عام 1991م، أم الدستور المعدل عام 1994م، قد نص على أنها وحدة لا تتجزأ، ولا يجوز التنازل عن أي جزء منها وبذلك، أقام الدستور نظامًا بسيطًا، أي دولة موحدة، وليس نظامًا فيدراليًا، تتوزع فيه السلطة والصلاحيات على المحافظات" (المصدر السابق، 1999، 51).
وبناء عليه "فالدولة اليمنية دولة بسيطة وليست دولة مركبة أي أنها ليست دولة فيدرالية أو كونفدرالية" (المصدر السابق، 1999، 51).
وفي سياق التسوية السياسية في اليمن، يمثل "شكل الدولة" أحد المحاور الجوهرية التي تتطلب توافقًا سياسيًا واسعًا بين مختلف الأطراف المعنية. في الوقت الذي يؤكد فيه الدستور اليمني على أن الدولة هي "وحدة لا تتجزأ" كما ورد في النصوص الدستورية الخاصة بعام 1991م و1994م، تبرز تحديات كبيرة في تطبيق هذا المفهوم في ظل التنوع الجغرافي والقبلي والسياسي في البلاد. وقد أظهرت الأحداث السياسية والاجتماعية في اليمن منذ التعديلات الدستورية تحديات ملموسة في تحقيق الاستقرار، مما أدى إلى نقاش مستمر حول إمكانية تحويل النظام من دولة موحدة إلى نظام فيدرالي أو نظام حكم محلي قد يحقق نوعًا من التوازن بين الأقاليم المختلفة.
من جهة أخرى، تثار قضايا تتعلق بمصلحة المناطق المختلفة في حال تطبيق النظام الفيدرالي أو نظام الحكم المحلي، حيث يرى البعض أن هذا النظام قد يساهم في تحسين الحكم المحلي وتمكين الأقاليم من إدارة شؤونها الخاصة بشكل أكثر فعالية. في المقابل، يرى البعض أن الانتقال إلى النظام الفيدرالي أو نظام الحكم المحلي قد يهدد وحدة الدولة ويعزز النزعات الانفصالية ويؤدي إلى تفتيت البلد. هذه المخاوف تعزز الحاجة إلى نقاش مستمر حول التحديات المترتبة على النظام الموحد من جهة، والنظام الفيدرالي أو نظام الحكم المحلي من جهة أخرى، وكيفية التوصل إلى توافق يضمن استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا في المستقبل.
وفي هذا السياق، قد يشكل "شكل الدولة" جزءًا من المفاوضات الشاملة في إطار التسوية السياسية، حيث يكون الحل الوسط القائم على التوازن بين مطالب المركز والأقاليم ضروريًا لتحقيق سلام دائم.
(٢) - القضية الجنوبية:
تعد القضية الجنوبية من أبرز القضايا المحورية في المدخل السياسي- الدستوري للتسوية السياسية في اليمن، ويتطلب معالجة شاملة وعادلة لضمان تحقيق تسوية دائمة.
ولايجاد حل عادل وشامل لهذه القضية المحورية ، ينبغي أن تركز التسوية السياسية على عدة أسس رئيسية، تحقق العدالة والمساواة لجميع الأطراف المعنية وتضمن عدم تكرار مآسي الماضي. ويمكن توضيحها على النحو التالي:
1- عدالة القضية الجنوبية:
يجب أن يتم الاعتراف بحجم الظلم التاريخي الذي لحق بالجنوبيين في مختلف مراحل تاريخ اليمن المعاصر، وأن يتم معالجة ذلك ضمن إطار تسوية سياسية عادلة تشمل الاعتراف بحقوقهم الإنسانية والسياسية والاجتماعية. ويتطلب ذلك توفير فرص متساوية للجنوبيين في المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
2- ضمان عدم تكرار ما حدث:
من الضروري أن يتضمن الحل ضمانات لمنع تكرار الأخطاء التي أدت إلى تفاقم القضية الجنوبية في الماضي من خلال سوء إدارتها من قبل السلطة الحاكمة أو محاولات استغلالها من قبل القوى المحلية والإقليمية المختلفة. وهذا يتطلب إصلاحات عميقة في النظام السياسي والاقتصادي لضمان عدم استغلال السلطة أو التمييز ضد الجنوبيين، مع تعزيز الشفافية والمساءلة في جميع المؤسسات.
٣- الأخذ بمعطيات الواقع:
يجب أن يأخذ الحل بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تعيشه المناطق الجنوبية، بما في ذلك التحديات التي تواجهها هذه المناطق بعد سنوات من النزاع والتهميش. ويعني ذلك تخصيص موارد أكبر لتطوير البنية التحتية في الجنوب، وتعزيز مؤسسات الحكم المحلي في إطار الدولة اليمنية الموحدة.
٤- البناء على التوافقات والتفاهمات الجنوبية الجنوبية:
يجب أن تعتمد تسوية القضية الجنوبية على التوافقات والتفاهمات التي تم التوصل إليها بين مختلف القوى الجنوبية، بما في ذلك الأطراف السياسية والاجتماعية المتنوعة. وهذا يتطلب تفعيل حوار جنوبي-جنوبي يهدف إلى تحقيق مصلحة مشتركة بعيدًا عن التدخلات الخارجية. من جهة أخرى، يتطلب الأمر أيضًا حوارًا يمنيًا-يمنيًا شاملًا يقوم على أساس المصالحة الوطنية، واحترام مطالب الجنوبيين العادلة، واحترام وحدة وسيادة واستقلال الجمهورية اليمنية.
٥- المشاركة الفاعلة:
يجب ضمان مشاركة فعالة للجنوبيين في جميع مراحل العملية السياسية، بما في ذلك الحوار الوطني، والانتخابات البرلمانية والرئاسية، وذلك من خلال تمثيل سياسي عادل في مؤسسات الدولة. يجب أن يتم تمثيل الجنوب بشكل مناسب في الحكومة، والبرلمان، ومؤسسات الدولة الأخرى.
ونعني هنا إشراك بقية المكونات الجنوبية التي لم تشارك في المجلس الانتقالي الجنوبي أو في الحوار الجنوبي-الجنوبي الذي انعقد في 10 مايو 2023، والذي تمخض عنه إقرار وثيقة "الميثاق الوطني الجنوبي".
٦- شكل الدولة:
يعد تحديد شكل الدولة المستقبلية في سياق القضية الجنوبية من القضايا الجوهرية التي تستدعي نقاشًا عميقًا وواقعيًا. فالقضية الجنوبية تتعلق، إلى جانب المطالب السياسية والاجتماعية، بتحديد الشكل الذي يمكن أن يحقق العدالة والمساواة بين مختلف مكونات الشعب اليمني، بما في ذلك الجنوبيين. وقد أثار هذا الموضوع العديد من الخيارات، من أبرزها الدولة اليمنية الموحدة أو النظام الفيدرالي. وفي هذا السياق، يبرز تساؤل جوهري : هل ستظل الدولة اليمنية الموحدة، أم سيتم الانتقال إلى نظام فيدرالي أو نظام حكم محلي يضمن حقوق ومطالب أبناء الجنوب؟
يعتمد هذا القرار على عدة عوامل، من بينها شكل التسوية المرتقبة، والمصالح الاقتصادية، والاعتبارات الأمنية، فضلاً عن التحديات والمتطلبات اللازمة للتحول إلى الشكل المتوافق عليه، ناهيك عن المطالب الخاصة بأبناء الجنوب الذين يرون أنه من مصلحتهم أن يتمتع الجنوب بقدر أكبر من الاستقلالية في إدارة شؤونه الداخلية.
كما أن الدولة اليمنية الموحدة تمثل خيارًا يسعى بعض الأطراف إلى الحفاظ عليه بصيغته الحالية، حيث تضمن وحدة الوطن وتجنب التفتيت. ولكن هذا الخيار يواجه تحديات كبيرة، لاسيما أن الجنوبيين يطالبون بأن تكون الوحدة في إطار يضمن لهم حقوقًا متساوية في السلطة والموارد والتنمية. وبالتالي، فإن الاستمرار في الوحدة اليمنية يتطلب تعديل آليات توزيع السلطة والثروة بشكل يضمن التوازن بين مختلف المناطق، ويأخذ بعين الاعتبار مطالب الجنوبيين في تحقيق التنمية والتمثيل السياسي الكافي.
وفي هذا الصدد ، يبرز مشروع نظام الحكم المحلي كصيغة واعدة لمعالجة القضية الجنوبية ، وتقديم حلول لمسألة شكل الدولة، خصوصًا في ظل الأوضاع التي تشهدها البلاد.
أما النظام الفيدرالي فهو خيار آخر قد يُطرح كحل وسط بين الجنوبيين والشماليين. وليس بجديد، فقد تم طرحه في مؤتمر الحوار الوطني الشامل (المنعقد في فترة ما بين 2013-2014)، الذي تم فيه "تبني معالجات حاسمة للقضية الجنوبية، يقع على رأسها تغيير شكل الدولة واعتماد المناصفة في المواقع القيادية للدولة بين المحافظات الجنوبية والشرقية من جهة، وبقية المحافظات من جهة أخرى" (الطويل، 2022، 86).
وفي هذا السياق، "تم توزيع اليمن إداريًا إلى ستة أقاليم، على أن يكون لكل إقليم حكومة وبرلمان خاص به، تدار شؤونه بشكل منفصل، وتدير الحكومة الاتحادية مختلف شؤون البلاد الخارجية والدفاع" (الفضلي، 2021).
يعتبر هذا النظام أكثر استجابة للمطالب الجنوبية، حيث يتيح للجنوبيين مساحة أكبر للتنمية الذاتية والإدارة المحلية، مع الحفاظ على الوحدة الوطنية في الوقت نفسه.
في سياق التسوية السياسية، يمكن أن يتضمن الحل المطروح منح الجنوب مزيدًا من الحقوق والتمثيل السياسي، كما يمكن النظر في خيار الفيدرالية أو نظام الحكم المحلي كآلية للتعامل مع هذه القضية بشكل يحقق توازنًا بين مصالح الشمال والجنوب. ومع ذلك، تظل القضايا المتعلقة بالعدالة الانتقالية، وتعويض المتضررين من الحروب، وإعادة بناء الثقة بين أبناء الوطن الواحد من أهم القضايا التي يجب معالجتها لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي في المستقبل.
بالمقابل، تبقى القضية الجنوبية عنصرًا حيويًا في المفاوضات السياسية اليمنية، حيث يتطلب التوصل إلى حل مستدام توافقًا واسعًا بين مختلف الأطراف السياسية بما يضمن حقوق الجميع ويحفظ وحدة البلاد.
وبناءً عليه، فإن تحديد شكل الدولة المستقبلية يجب أن يكون جزءًا من تسوية شاملة تأخذ بعين الاعتبار التوافقات الوطنية، وتحترم حقوق الجنوبيين وتضمن العدالة والمساواة بين كافة أبناء الوطن.
٧- المصالحة الوطنية:
وتشكل المصالحة الوطنية ركنا أساسيًا في حل القضية الجنوبية، فهي بمثابة خطوة حتمية لبناء الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف اليمنية، في الشمال والجنوب على حد سواء، فعلى الرغم من التحديات السياسية والاجتماعية التي أثرت على العلاقة بين هذه الأطراف، إلا أن المصالحة تمثل مفتاحًا لتحقيق التسوية السياسية المستدامة. وتستند المصالحة الوطنية إلى ضرورة إعادة التواصل بين أبناء الوطن الواحد بعد سنوات من الصراع والانقسام وفوضى المشاريع الداخلية، مع السعي لتحقيق العدالة والمساواة لجميع الأطراف.
في هذا السياق، المصالحة الوطنية لا تقتصر فقط على التوصل إلى اتفاق سياسي بين الأطراف، بل تشمل أيضًا معالجة آثار الحرب والصراعات التي شهدتها البلاد. ويتطلب ذلك تقديم تعويضات للمتضررين، وإجراء محاكمات عادلة لمرتكبي الانتهاكات، وضمان حقوق النازحين والمشردين. كما يجب أن تسهم المصالحة في إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع اليمني، وهو أمر لا يتحقق إلا من خلال الاعتراف بحقوق جميع الأطراف، بما في ذلك الجنوبيين، وضمان مشاركتهم الفعالة في صناعة القرار الوطني.
تُعتبر المصالحة الوطنية أيضًا عاملاً أساسيًا في تعزيز الوحدة الوطنية، حيث تسهم في إنهاء الانقسامات بين المحافظات الشمالية والجنوبية، وتؤكد على أهمية الوحدة في بناء الدولة اليمنية المستقبلية. وعليه، فإن أي حل للقضية الجنوبية يجب أن يشمل آليات فعالة للمصالحة، لضمان أن يتم التوصل إلى تسوية شاملة تحقق العدالة الاجتماعية وتضمن مشاركة عادلة في السلطة والموارد.
بناءً على ما سبق، فإن المصالحة الوطنية تعد ركيزة أساسية في أي تسوية سياسية شاملة، ويجب أن تتم وفقًا لمبادئ العدالة الانتقالية، والتعويض، والمشاركة الشاملة، مع ضمان عدم تكرار الأخطاء السابقة، وضمان تحقيق الأمن والاستقرار في كافة أنحاء اليمن.
(٣) بناء الدولة:
يعد "بناء الدولة" أحد المحاور الأساسية في المدخل السياسي-الدستوري للتسوية السياسية في اليمن، حيث يشمل إعادة هيكلة الدولة بكافة مؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لضمان استقرارها وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع مكوناتها. يهدف بناء الدولة إلى إقامة نظام دستوري وقانوني يحقق التوازن بين مختلف الأطراف، ويؤسس لمؤسسات قوية قادرة على مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي هذا الإطار يتطلب بناء الدولة الأمور التالية :
1- إصلاح النظام السياسي:
إن إصلاح النظام السياسي يعد خطوة أساسية في بناء الدولة اليمنية المستقبلية. ويتطلب ذلك وضع دستور جديد يضمن حقوق جميع الأطراف السياسية والاجتماعية ويحدد آليات واضحة لتوزيع السلطة بين مختلف الفئات والمناطق. يجب أن يعكس هذا الدستور التوازن بين المحافظات الشمالية والمحافظات الجنوبية ، ويضمن حقوق المكونات السياسية المختلفة، مع تحديد صلاحيات الرئيس، الحكومة، البرلمان، والقضاء بشكل يضمن عدم تركز السلطة في يد فئة واحدة. ويجب أن يتضمن هذا النظام قوانين تساهم في تعزيز الديمقراطية، وضمان التعددية السياسية، مما يعزز الاستقرار السياسي في اليمن.
2- إعادة تشكيل مؤسسات الدولة:
إعادة تشكيل مؤسسات الدولة هي عملية حيوية لضمان فعالية الحكومة والمجتمع في بناء الدولة الجديدة. يشمل ذلك تعزيز المؤسسات الحكومية مثل الوزارات والهيئات المستقلة لضمان تقديم خدمات فعالة للمواطنين. كما يتطلب إعادة هيكلة جهاز الدولة لضمان استقلالية القضاء، وتحقيق العدالة من خلال محاكم مستقلة قادرة على محاسبة المسؤولين. من الأهمية بمكان أيضًا ضمان تمثيل عادل لجميع الأطراف السياسية في هذه المؤسسات لتفادي الإقصاء وتعزيز المشاركة الوطنية في صنع القرار.
3- العدالة الاجتماعية والتنمية:
تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية يعد من أبرز الأولويات في بناء الدولة. ويشمل ذلك توزيع الموارد بشكل عادل بين جميع المناطق، خاصة تلك التي عانت من التهميش في الفترة الماضية. يجب أن يشمل ذلك تعزيز التنمية في البنية التحتية، التعليم، والصحة، إضافة إلى خلق فرص العمل للمواطنين في المناطق الأقل تطورًا. كما يجب تقديم الدعم للمشاريع التنموية التي تركز على تحسين حياة المواطنين في المناطق الجنوبية والشمالية على حد سواء، مما يساعد على تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع الأقاليم.
4- تعزيز الوحدة الوطنية:
تعزيز الوحدة الوطنية هو ركيزة أساسية في بناء الدولة اليمنية المستقبلية. يشمل ذلك تعزيز التعايش السلمي بين مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية، مع التأكيد على احترام التنوع والاختلافات الثقافية والدينية في المجتمع اليمني. ينبغي أن تعمل الدولة على توفير بيئة يسودها الحوار والتفاهم بين كافة الأطراف السياسية والمجتمعية، بما يعزز من روح التضامن الوطني. ويجب أن تركز السياسات على تحقيق التوازن بين تطلعات أبناء الوطن الواحد، مما يساعد في تقوية الوحدة الداخلية ويقلل من مخاطر الانقسام.
5- إرساء مبادئ الحكم الرشيد ومكافحة الفساد:
إرساء مبادئ الحكم الرشيد يعد أمرًا حاسمًا لبناء الدولة المستقبلية في اليمن. يتطلب ذلك تعزيز الشفافية في إدارة الموارد، وتفعيل آليات المساءلة والمراقبة لضمان أن الحكومة تعمل لصالح المواطنين. مكافحة الفساد ينبغي أن تكون على رأس أولويات الحكومة، عبر تعزيز هيئات الرقابة والمحاسبة ومكافحة الاختلاس. كما يجب التأكيد على ضرورة تقديم الخدمة العامة بشكل عادل وشفاف، مما يعزز الثقة بين المواطنين والحكومة ويسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
اجمالا، يعد بناء الدولة ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي في اليمن. إن إعادة هيكلة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تضمن التوزيع العادل للسلطة والموارد، وتساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة لجميع المناطق. كما أن تعزيز الوحدة الوطنية والمشاركة الفاعلة لجميع الأطراف في صنع القرار يسهم في منع حدوث الانقسامات المستقبلية. وعليه، فإن بناء دولة قوية وموحدة يتطلب العمل على إصلاح النظام السياسي، تعزيز مؤسسات الدولة، وتحقيق التنمية المستدامة، مما يؤدي إلى استعادة الثقة بين أبناء الشعب اليمني ويضمن مستقبلًا آمنًا ومستقرًا للجميع.
7) الإطار القانوني للتسوية:
يُعد الإطار القانوني للتسوية السياسية في اليمن أحد المداخل الأساسية لضمان نجاح العملية السياسية واستدامتها. ويشمل مجموعة من العناصر الأساسية التي تهدف إلى تحقيق تسوية شاملة ومستدامة للصراع في اليمن، وذلك من خلال تحديد الأسس القانونية التي تنظم العملية السياسية وتضمن استقرار البلاد. ويتكون هذا الإطار من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
1 - المرجعيات الثلاث:
تشكل المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة) الأساس القانوني الذي يستند إليه الحل السياسي في اليمن، حيث توفر هذه المرجعيات إطارًا واضحًا وشاملًا للعملية الانتقالية، وتحدد المبادئ والأهداف التي يجب أن تلتزم بها جميع الأطراف المعنية. ومن هذا المنطلق، تتمسك الحكومة اليمنية بتلك المرجعيات باعتبارها السبيل الشرعي والوحيد لتحقيق تسوية سياسية شاملة تضمن الاستقرار الوطني، وتعزز سيادة القانون، وتدعم التوافق بين مكونات المجتمع اليمني. وعلى الرغم من رفض المجلس الانتقالي الجنوبي وجماعة أنصار الله الحوثيين لهذه المرجعيات، إذ يعتبرونها متعارضة مع مصالحهم السياسية، فإن الحكومة تصر على أن أي حل لا يمكن أن يكون مستدامًا أو شرعيًا إلا إذا كان منسجمًا مع هذه المرجعيات التي نالت دعمًا دوليًا واسعًا. بذلك، تظل هذه المرجعيات بمثابة حجر الزاوية لأي تسوية سياسية قابلة للتنفيذ في اليمن، كونها تضمن الشفافية والمشاركة الفعالة لجميع الأطراف، وتستند إلى الأسس القانونية التي تضمن السلامة السياسية والحقوقية للبلاد.
2 - شرعية التسوية السياسية:
تتطلب التسوية السياسية في اليمن ضمان شرعية واسعة تستند إلى التوافق الوطني، مع احترام الآليات الدستورية والقانونية، إلى جانب المشاركة العادلة والشاملة لجميع الأطراف والمكونات الاجتماعية والسياسية. يجب أن يعتمد أي اتفاق سياسي على عملية تفاوضية شفافة وشاملة، ويكتسب قبولًا واسعًا من الشعب اليمني. كما يجب أن يتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويضمن سيادة القانون وحماية الحريات الأساسية. ولتحقيق ذلك، يتعين أن تتضمن التسوية السياسية آليات قانونية ودستورية تضمن تنفيذ الاتفاقات المتوصل إليها بشكل عادل وفعّال، مما يسهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
في هذا السياق، يمكن تعريف الشرعية اليمنية بأنها الاعتراف السياسي والقانوني بالحكومة اليمنية المتوافق عليها في اتفاق التسوية، باعتبارها السلطة الحاكمة المعترف بها داخليًا ودوليًا. وهذه الحكومة تمتلك الحق في ممارسة السلطة وإدارة شؤون الدولة، وتأسيس سلطات شرعية جديدة تضمن تلبية احتياجات الشعب اليمني وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. تعكس هذه الشرعية قبول الحكومة كممثل شرعي للشعب، وقدرتها على تحقيق التطلعات الوطنية في سياق تسوية سياسية مستدامة.
3 - تحديث الإطار القانوني للتسوية:
يتطلب الواقع اليمني الراهن تحديثًا مستمرًا للإطار القانوني للتسوية السياسية، بما يتناسب مع التطورات والمستجدات التي تشهدها البلاد. يشمل هذا التحديث إجراء تعديلات دستورية وقانونية تهدف إلى ضمان الانتقال السلمي للسلطة وتعزيز نظام الحكم الرشيد. كما يتطلب التحديث تعزيز استقلالية القضاء، وتقوية دور المؤسسات الرقابية، والعمل على إصلاح النظام القانوني بما يتلاءم مع احتياجات المرحلة الانتقالية. يجب أن يتم هذا التحديث من خلال عملية تشاركية واسعة تأخذ في الاعتبار آراء جميع الأطراف والمكونات الاجتماعية والسياسية، بما يضمن توافقًا وطنيًا شاملًا. يهدف هذا التحديث إلى توفير إطار قانوني مرن وقوي قادر على التعامل مع التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويضمن تنفيذ الاتفاقات السياسية وحماية حقوق المواطنين وتعزيز سيادة القانون في البلاد.
في المجمل، يُعد الإطار القانوني للتسوية السياسية في اليمن أحد الركائز الأساسية لضمان نجاح العملية السياسية وتحقيق الاستقرار الدائم في البلاد. من خلال المرجعيات الثلاث التي تشكل الأساس القانوني للعملية الانتقالية، إلى جانب ضمان الشرعية الواسعة التي تستند إلى التوافق الوطني والاحترام الكامل للقوانين والدستور، يمكن بناء تسوية سياسية شاملة تُلبي تطلعات الشعب اليمني. كما أن تحديث هذا الإطار القانوني بما يتماشى مع المستجدات والتحديات يعزز من قدرة البلاد على تجاوز أزماتها السياسية والاجتماعية، ويوفر بيئة قانونية عادلة تضمن حقوق المواطنين وتعزز سيادة القانون. بذلك، يشكل الإطار القانوني المتين عنصرًا أساسيًا في بناء دولة ديمقراطية ومستقرة، تلبي احتياجات الشعب وتضمن مستقبلاً مشرقًا لليمن.
في الختام، يتضح أن التسوية السياسية في اليمن ليست مجرد عملية تفاوضية بين أطراف متنازعة، بل هي مسار معقد وشامل يتطلب جهودًا مضنية وتضافرًا للرؤى والمصالح. إن تحقيق سلام دائم في اليمن يستلزم معالجة جذرية لأسباب الصراع، وتبني مقاربة متكاملة تأخذ في الاعتبار كافة الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لا يمكن لأي تسوية سياسية أن تنجح دون مراعاة معطيات الواقع، وترتيب الأولويات، وإرساء دعائم العدالة والمساواة، وضمان مشاركة جميع الأطراف في صنع القرار، وتعزيز المصالحة الوطنية، وبناء الدولة على أسس متينة من الحكم الرشيد وسيادة القانون. إن بناء دولة يمنية موحدة ومستقرة يتطلب كذلك، التوصل إلى توافق وطني حول شكل الدولة ونظام الحكم، ومعالجة القضية الجنوبية بشكل عادل ومنصف، واستكمال الإطار القانوني للتسوية. إن تحقيق هذه الأهداف ليس بالأمر الهين، لكنه ليس مستحيلاً، فاليمن تستحق أن تنعم بالسلام والازدهار، وأن تعود إلى مكانتها الطبيعية في محيطها الإقليمي والدولي. ومع تضافر الجهود الوطنية والإقليمية والدولية، يمكن لليمن أن تتجاوز محنتها، وتبني مستقبلًا واعدًا لأجيالها القادمة.
قائمة المراجع:
اولا: الكتب
١- الكبسي، أحمد محمد. "نظام الحكم في الجمهورية اليمنية." جامعة صنعاء، المكتبة التاريخية اليمنية، ط٤، أبريل 1999.
٢- الطويل، ناصر. "تحولات القضية الجنوبية بعد التدخل العسكري للتحالف العربي في اليمن." المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية، 2022.
ثانيا : رسائل الماجستير
١- صفا، كمال. "الأزمة اليمنية، أسبابها، أبعادها وطرق تسويتها." الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية، الجيش اللبناني، مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية، 2018.
٢ - عمر، حاتم سعدي صالح. "الدور السعودي في اليمن وانعكاسه على أمن الخليج العربي (2011 - 2020)." جامعة الأقصى-غزة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2021.
ثالثا : المواقع الإلكترونية
١- الفضلي، ريم. "الأقاليم في اليمن.. كيف ولماذا؟" صحيفة الأيام، ٤ سبتمبر ٢٠٢١، www.alayyam.info.
٢ - المودع، عبدالناصر. "التسوية السياسية في اليمن: المعوِّقات والآفاق." Al Jazeera Centre for Studies, أيار 2016. http://studies.aljazeera.net/reports/2016/05.
٣ - المودع، عبدالناصر. "الحرب الهجينة في اليمن تتعقد مساراتها وفرص تسويتها." القدس العربي, 8 كانون الأول 2018. https://www.alquds.co.uk/
٤ - اليمن على حافة مجاعة كبرى: ما الذي يمكن عمله؟" تنبيه سياسي, مركز المخأ للدراسات الاستراتيجية, 2024, wp.me/pghRh9-2fy.
٥ - مركز المخأ للدراسات الاستراتيجية. انهيار سعر العملة اليمنية: المسار والتداعيات. 2021، https://wp.me/pghRh9-1pY.
٦ - مركز المخأ للدراسات الاستراتيجية. "مشاورات عمّان خطوة ممهدة للسلام أم مراوحة في ذات المكان." تقدير موقف، 22 مارس 2022، https://wp.me/pghRh9-1gt.