مقالات صحفية


ماذا لو كنا نحن يأجوج ومأجوج والشعوب المعزولة هم البشر؟

السبت - 09 نوفمبر 2024 - الساعة 01:50 ص

د.محمد العرب  ‏@malarab1
الكاتب: د.محمد العرب ‏@malarab1 - ارشيف الكاتب


تفتح الفلسفة بوابة تأمل واسعة، تمكننا من إعادة النظر في مفاهيم ترسخت بداخلنا عن أنفسنا وعن العالم. من الأفكار المثيرة التي قد تبدو غير تقليدية هي تلك النظرية القائلة بأن البشر المعاصرين هم يأجوج ومأجوج المعاصرين، وأن الشعوب المعزولة في مناطق نائية هم البشر الحقيقيون الذين لم تتأثر إنسانيتهم بصخب الحضارة. هذا الطرح، رغم أنه قد يبدو بعيدًا عن الواقع، إلا أنه يعكس مخاوف عميقة حول معنى التقدم، ويثير تساؤلات حول طبيعة الإنسانية وحدودها.

يأجوج ومأجوج، الكيانات الأسطورية التي ذكرت في النصوص الدينية والتاريخية، تُصوَّر عادة كقوى تخريبية تحمل الشر والفساد. ويرى البعض أنها ترمز إلى تجليات الشر المطلق، وتدمير التوازن الطبيعي في الأرض. في هذا السياق، يمكن أن يُنظر إلى البشر المعاصرين، الذين يتمتعون بتكنولوجيا وقوة تؤثر على جميع مناحي الحياة، باعتبارهم قوة تعيث فسادًا في الأرض. هذه الفكرة، رغم بساطتها، تستدعي وقفة تأمل في تأثير الإنسان الحديث على البيئة والنظم البيئية. إذا نظرنا بتمعن، نجد أن الإنسان المعاصر، بفعل توسع الحضارة، ألحق بالبيئة أضرارًا هائلة عبر التلوث، والتغيير المناخي، وتدمير المواطن الطبيعية للكائنات الحية الأخرى.

أحد المحاور التي تدعم هذا الطرح يكمن في الفلسفة الأخلاقية. يتحدث جون ستيوارت ميل، الفيلسوف البريطاني، عن مبدأ الضرر كأساس للأخلاق، حيث يجب أن يتجنب الإنسان الإضرار بالآخرين من أجل التعايش المتوازن. وفقًا لهذا المبدأ، يمكن النظر إلى البشر المعاصرين كـ “يأجوج ومأجوج” جدد، يحققون النمو والتقدم على حساب الطبيعة، ويساهمون في تدهور الكوكب، غير مكترثين بالعواقب التي تتراكم على مر الزمن. هنا، تبرز الشعوب المعزولة كأيقونة للتعايش السلمي مع الطبيعة؛ فهم يعيشون بدون استنزاف للموارد، ويكتفون بالأساسيات بعيدًا عن الرفاهية التكنولوجية، مما يطرح تساؤلات حول المعايير التي نقيس بها التطور البشري.

في الفلسفة الوجودية، تكمن فكرة “الآخر” في تشكيل هوية الإنسان ومعرفة ذاته من خلال وجود الآخرين المختلفين عنه. الشعوب المعزولة تمثل “الآخر” بمعناه العميق، فهم يعيشون بطرق تتسم بالانسجام مع الطبيعة، ويعكسون جانبًا بدائيًا قد يكون قديمًا وأصيلًا للبشرية. في المقابل، نجد أن الإنسان المعاصر يعيش حياة معقدة مليئة بالتكنولوجيا والصراعات الاجتماعية، مما يجعل هويته أكثر ضبابية وابتعادًا عن القيم الإنسانية الأصيلة. قد تكون هذه الشعوب إذًا، هي الوجه النقي للبشرية، الذي لم يتلوث بتحديات الحداثة.

الكاتب والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ناقش مفهوم السلطة والمعرفة، مشيرًا إلى كيفية هيمنة القوى المهيمنة على أيديولوجيات الآخرين. وفقًا لفوكو، تهيمن المجتمعات المتقدمة على العالم عبر المعرفة، حيث تفرض أساليب حياتها ونمط تفكيرها على الشعوب الأخرى، وهو ما يمكن أن يُعتبر شكلاً من الاستعمار الفكري والثقافي. عندما نفرض قيمنا على الشعوب المعزولة، ونحاول إدخالهم في منظومتنا الحضارية، نؤكد فكرة أننا “يأجوج ومأجوج” في العصر الحديث، نمثل قوة تسعى للاستحواذ والسيطرة دون اعتبار للهوية الإنسانية للآخر.

التكنولوجيا التي يتمتع بها الإنسان المعاصر تُعتبر قيدًا على الحرية الإنسانية الأصلية. الشعوب المعزولة، التي لم تتعرض للتكنولوجيا الحديثة، قد تعيش حرية نسبية مقارنة بنا، بعيدًا عن القوانين الاجتماعية المعقدة والمحددات التي تفرضها الحياة العصرية. يعيشون حياة بسيطة متحررة من صخب الحضارة، في حين أننا، بامتلاكنا للتكنولوجيا، قد نكون خاضعين لها أكثر مما هي خاضعة لنا. ربما يعكس ذلك جانبًا من الإنسانية، حيث قد تكون الحرية الحقيقية تلك التي تعيشها هذه الشعوب بعيدًا عن قيود الحياة العصرية.

هذا الطرح الفلسفي يثير تساؤلات عميقة عن ماهية “التقدم” وما إذا كان يعني بالضرورة تراجع الإنسان عن حقيقته. ربما نحتاج إلى مراجعة مفهومنا عن الإنسانية، وأن نعيد التفكير في علاقتنا بالعالم وبالآخرين. هل نحن حقًا البشر المتفوقون، أم أننا أصبحنا قوة تدمير شبيهة بيأجوج ومأجوج، نبحث عن سيطرة مستمرة دون أن ندرك العواقب؟

في النهاية، يبقى هذا الطرح الفلسفي دعوة للتأمل العميق، وتذكيرًا بأن الإنسانية الحقيقية قد لا تكون بالضرورة في الإنجازات التكنولوجية، بل في توازن مع العالم واحترام الآخر.




شاهد ايضا


#زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب جنوب #روسيا ...

الأربعاء/12/مارس/2025 - 10:17 م

ضرب زلزال بلغت قوته 4.3 درجة على مقياس ريختر، اليوم، إقليم ستافروبول جنوب روسيا. وأذكرت دائرة الطوارئ الإقليمية، في بيان، بأن زلزالا بقوة 4.3 درجة على


#ترامب يوفد مفاوضين إلى #روسيا لبحث وقف إطلاق النار في #أوكرانيا ...

الأربعاء/12/مارس/2025 - 10:00 م

أحداث العالم - أ ف ب أعلن دونالد ترامب اليوم "الأربعاء" أن مفاوضين أمريكيين سيتوجهون "فورا" إلى روسيا في وقت تحض واشنطن موسكو على القبول باقتراح وقف ل


مشاورات عربية – أميركية حول إعمار غزة ...

الأربعاء/12/مارس/2025 - 09:48 م

عقد وزراء خارجية السعودية ومصر وقطر والأردن ووزير الدولة بالخارجية الإماراتية وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لقاءً الأربعاء فى ا